افتتاحية الخطب المهمة لدعاة الأمة : الشفاعة السيئة

2015-01-09

أحمد سليمان

الشفاعة السيئة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وبعد

فالحديث عن الشفاعة معلوم ومشهور عند الكافة ولكن هناك نوع من الشفاعة يغفل الناس عنه ألا وهو الشفاعة السيئة، والذي ذكره رب العزة في كتابه فقال: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} (85) النساء

والشفاعة مأخوذة من الشفع، وهو أن يصير الإنسان نفسه شفعًا لصاحب الحاجة حتى يجتمع معه على المسألة فيها.

فالشفاعة الحسنة هي التوسط والسعي في قضاء حوائج الناس من غير الإضرار بمصالح الآخرين وحاجاتهم، وأما الشفاعة السيئة فهي السعي بتحقيق مصالح البعض على حساب الآخرين،

وعندما تقع الشفاعة السيئة وتستشري في أوساط الأمم وتكون منهاجا عاما، فلا تقضى المصالح إلا بها، ولا يعمل العامل إلا بتحصيلها، ولا يترقى العمال في المناصب والوجاهات إلا باستعمالها،

فيكون المعيار في التقديم وشغل الأعمال بحسب حظه من أصحاب الشفاعات فهذا مؤذن بانهيار المجتمعات، فإذا أعلن عن وظيفة شاغرة وتقدم لها الأكفاء والنابهين وفي مقابلهمالأغبياء والتافهين ولكنهم يتكلون على الشافعين فقد تؤدي الشفاعة إلى تقديم الأغبياء على الأكفاء فيتقلد الأعمال من لا يفهم ولا يعقل ولا يحسن، وفي الدول المتخلفة عن ركب التقدم والازدهار يكون معيار التوظيف مبني على اختيار: ضعف الشخصية، النفاق، القابليةللإهانة من رؤسائه، المطاوعة في الفساد. . . . . .

والإسلام قد جعل التولية للأعمال على قدر الكفاءات وإن كان أوضع الناس قدرًا ونسبا في المجتمعات، فاصطفاء طالوت كان لهذه العلة قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 247)

ولما رأى يوسف عليه السلام أموال الأمة وضعت في غير المؤتمن قال {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].

وكان صلى الله عليه وسلم لا يولي أحدا عملاً إلا كان من أصحاب الكفاءة والقدرة على العمل، فعن أبي ذررضي الله عنه قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا)(1)

وسار على هذا النهج خلفاؤه رضي الله عنهم فعَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِىَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ فَقَالَ مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِى فَقَالَ ابْنَ أَبْزَى. قَالَ وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى قَالَ مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا. قَالَ فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى قَالَ إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ. قَالَ عُمَرُ أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ: (( إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)). (2)

فالمجاملة وقبول الشفاعات في غير موضعها فساد للمجتمعات وقتل للعلم وذبح للمروءات

وفي حجة الوداع وهي آخر خطب النبي صلى الله عليه وسلم المشهودة قضى على نظرية المحسوبية والمجاملة والشفاعة السيئة فقال: {وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ}.(3)

ومن أسوأ ما يقع من الشفاعات السيئة الشفاعة في إسقاط العقوبات عن المفسدين فيسرق السارق فيشفع له الشافعون فلا يعاقب، ويقتل القاتل فيشفع فيه الشافعون فلا يعاقب، فالمعتدى عليه ييأس والمعتدي يتباهى ويزهو ويفخر ثم يتمادى في غيه وقد أضمر وهو بهذا قد ضاد الله في شرعه وهجر

فعَنْ يَحْيَى بْنِ رَاشِدٍ قَالَ جَلَسْنَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَجَلَسَ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: {مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ وَمَنْ خَاصَمَ فِى بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ لَمْ يَزَلْ فِى سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ عَنْهُ وَمَنْ قَالَ فِى مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ}(4)

وما هلك من هلك ممن قبلنا إلا لإيقاعهم الشفاعات المحرمة فأسقطوا بها العقوبات المقدرة، ولما هم بعض أصحابه أن يشفع للسارقة قام فخطبهم خطبة زاجرة وحذرهم من مسالك الأمم الغابرة

عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِى سَرَقَتْ فِى عَهْدِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى غَزْوَةِ الْفَتْحِ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُتِىَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((أَتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ))، فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ اسْتَغْفِرْ لِى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَلَمَّا كَانَ الْعَشِىُّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاخْتَطَبَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَإِنِّى وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)). ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِى سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ يَدُهَا.

 قَالَ يُونُسُ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدُ وَتَزَوَّجَتْ وَكَانَتْ تَأْتِينِى بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (5)

فما يجوز في الدين أن يشفع فيه فهو شفاعة حسنة، وما لا يجوز أن يشفع فيه فهو شفاعة سيئة،

والشفاعة الحسنة طاعة إلى الله وزلفى وأما السيئة فهي خزي وعار، فالحسنة تؤجر عليها قضيت أو لم تقض والسيئة تأثم بها قضيت أو لم تقض

عَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ قَالَ: ((اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ))(6)

والشفاعات الحسنة زكاة المروءات وأما السيئة فهي تستوجب العقوبات

نسأل الله أن يصرف عنا شفعاء السوء ويجنبنا مسالك الإثم والفجور

والحمد لله أولاً وآخرًا، وصل اللهم علىمحمد وآله وصحبه وسلم

 

  كتبه

 أحمد بن سليمان

---

(1) أخرجه مسلم (182).

(2) أخرجه مسلم (1934).

(3) أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر بن عبد الله

(4) أخرجه أبو داود في سننه (3599)، وصححه الألباني

(5) أخرجه مسلم (4506)

(6) أخرجه البخاري ( 6028).

عدد المشاهدات 5025