من البيوع المنهي عنها- الحلقة الأولى

2012-08-07

زكريا حسينى

من البيوع المنهي عنها

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأصلي وأسلم على خير خلقه وخاتم أنبيائه، وإمام رسله نبينا محمد، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

هناك بيوع نهى الشارع عنها، من هذه البيوع:

1- بيع الإنسان ما ليس عنده:

عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي، أبتاع له من السوق ثم أبيعه ؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تبع ما ليس عندك).

هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وحسنه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7206).

أخرجه الإمام أحمد بالأرقام (3/402: 15311، 15312، 15313، 15315)، وأبو داود برقم (3503)، والترمذي برقم (1232)، والنسائي برقم (4617)، وابن ماجه برقم (2187).

أولاً: شرح الحديث

قوله: (يسألني من البيع ما ليس عندي): قال السندي في تعليقه على سنن النسائي: أي يسألني من المبيع، فالبيع بمعنى المبيع، كالصيد بمعنى المصيد.

وقوله: (أبتاع له من السوق؟) بتقدير همزة الاستفهام ؛ أي أأبتاع له من السوق؟ بمعنى أأشتري له من السوق. قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: ومقصود السائل: أنه هل يبيع ما ليس عنده ثم يشتريه من السوق، ثم يسلمه للمشتري الذي اشترى له.

وقوله: (قال: لا تبع ما ليس عندك). أي شيئًا ليس في ملكك حال العقد.

قال البغوي في شرح السنة: قال الإمام: هذا في بيوع الأعيان دون بيوع الصفات. والمقصود ببيوع الصفات بيع السَّلَم، وهو مستثنى من بيع ما لا يملك الإنسان.

 ثانيًا: حديث آخر في نفس المعنى

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يحل سلفٌ وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربحُ ما لم يَضْمَن، ولا بيع ما ليس عندك). أخرجه الإمام أحمد بأرقام (2/175، 179، 205: 6628، 6671، 6918)، والترمذي، وصححه وأخرجه ابن ماجه مختصرًا.

ومعنى: (لا يحل سلف وبيع) السلف يطلق على السَّلَمِ وعلى القرض، والمراد به هنا شرط القارض، كأن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرة على أن تقرضني عشرين، أو نحوها، وقيل: صورته: أن يقرضه قرضًا ويبيع منه شيئًا بأكثر من قيمته فإنه حرام لأن قرضه رَوَّجَ سِلْعَتَهُ، وقيل غير ذلك.

ومعنى قوله: (ولا شرطان في بيع) فسره الإمام أحمد بأن يقول: أبيعك هذا الثوب وعليَّ حياكته وقصارته، فإن قال: عليَّ حياكته جاز، وإن قال وعليَّ قصارته جاز. وفسره غيره بالبيعتين في بيعة. وقد فسر البيعتين في بيعة الإمام الشافعي: بأن يقول: أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا. وفسره الترمذي بأن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة , وبنسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس، ومعنى قوله: (ولا ربح ما لم يضمن). يريد به الربح الحاصل من بيع ما اشتراه قبل أن يقبضه. وأما قوله: (ولا تبع ما ليس عندك) فقد سبق شرحه.

2- بيع ما لم يقبضه:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أما الذي نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو الطعام أن يباع حتى يقبض، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه ويستوفيه).

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إذا ابتعت طعامًا فلا تبعه حتى تستوفيه).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله). وفي رواية: (حتى يُسْتَوْفَى).

أما حديث ابن عباس فأخرجه البخاري في موضعين من صحيحه ؛ الأول برقم (2132)، والثاني برقم (2135)، وأخرجه مسلم في صحيحه برقم (1525)، وأبو داود برقمي (3496، 3497)، والترمذي برقم (1291)، والنسائي بأرقام (4601- 4602- 4603 - 4604)، وابن ماجه برقم (2227)، والإمام أحمد في المسند بأرقام 1/356، 368، 369، وأما حديث ابن عمر فأخرجه البخاري بأرقام (2124- 2126 - 2133 - 2136)، ومسلم برقم (1526)، وأبو داود بالأرقام (3492، 3493، 3494، 3495، 3498)، والنسائي بأرقام (4599 - 4600 - 4601)، وابن ماجه برقم (2226)، والإمام أحمد بأرقام (2/46 - 59 - 73 - 108 - 111)، وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه مسلم في صحيحه برقم (1529).

وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم في صحيحه برقم (1528)، والإمام أحمد برقم (2/337).

شرح الأحاديث

ترجم الإمام البخاري لحديثي ابن عباس وابن عمر: (باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك). وقال الحافظ في الفتح: لم يُذْكَرْ في حديثي الباب بيع ما ليس عندك وكأنه لم يثبت على شرطه فاستنبطه من النهي عن البيع قبل القبض، ووجه الاستدلال منه بطريق الأولى، وحديث النهي عن بيع ما ليس عندك أخرجه أصحاب السنن من حديث حكيم بن حزام بلفظ: قلت: يا رسول الله، يأتيني الرجل فيسألني البيع ليس عندي، أبيعه منه ثم أبتاعه له من السوق ؟ فقال: (لا تبع ما ليس عندك). قال ابن المنذر: وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين ؛ أحدهما أن يقول: أبيعك عبدًا أو دارًا معينة وهي غائبة، فيشبه بيع الغرر ؛ لاحتمال أن تتلف أو لا يرضاها، ثانيهما أن يقول: هذه الدار بكذا على أن أشتريها لك من صاحبها، أو على أن يسلمها لك صاحبها. اهـ.

قال الحافظ: وقصة حكيم موافقة للاحتمال الثاني.

وأما الإمام مسلم فترجمةُ صحيحِهِ لهذه الأحاديث الأربعة: (باب بطلان بيع المبيع قبل القبض).

أخذ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرح الحديثين فقال: قوله عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أما الذي نهى عنه).. إلخ، أي: وأما الذي لم أحفظ نهيه فما سوى ذلك.

وقوله: (فهو الطعام أن يباع حتى يُقْبَضَ). وفي رواية مسعر عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس: (من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه).

قوله: (قال ابن عباس لا أحسب كل شيء إلا مثله)، ولمسلم من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه: (وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام). وهذا من تفقه ابن عباس، ثم قال الحافظ: وقول طاوس في الباب قبله: (قلت لابن عباس: كيف ذاك ؟ قال: ذاك دارهم بدارهم والطعام مُرْجأٌ. معناه أنه استفهم عن سبب هذا النهي، فأجابه ابن عباس بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باعه دراهم بدراهم. ويبين ذلك ما وقع في رواية سفيان عن ابن طاوس عند مسلم: قال طاووس: قلت لابن عباس: لم ؟ قال: ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مُرْجَأٌ) أي: فإذا اشترى طعامًا بمائة دينار مثلاً ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام، ثم باع الطعام لآخر بمائة وعشرين دينارًا وقبضها، والطعام في يد البائع فكأنه باع مائة دينار بمائة وعشرين دينارًا. وعلى هذا التفسير لا يختص النهي بالطعام، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا أحسب كل شيء إلا مثله). ويؤيده حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: (نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم). أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان. ثم نقل عن القرطبي قوله: وقد أخذ بظاهر هذه الأحاديث مالك فحمل الطعام على عمومه، وألحق بالشراء جميع المعاوضات، وألحق الشافعي وسحنون وابن حبيب بالطعام كل ما فيه حق توفية، وزاد أبو حنيفة والشافعي فعدياه إلى كل مُشْتَرًى، إلا أن أبا حنيفة استثنى العقار وما لا ينقل، واحتج الشافعي بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ربح ما لم يضمن). أخرجه الترمذي. قال الحافظ: قلت: وفي معناه حديث حكيم بن حزام المذكور في صدر الترجمة.

قال: وفي صفة القبض عند الشافعي تفصيل: فما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب فقبضه بالتناول، وما لا ينقل كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية، وما ينقل عادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به.

تفصيل المذاهب في ما لم يُقبض

جاء في (الموسوعة الفقهية) ما ملخصه:

1- مذهب الشافعية، وهو قول أبي يوسف الأول، وقول محمد، وهو أيضًا رواية عن الإمام أحمد أنه لا يصح بيع المبيع قبل قبضه، سواء أكان منقولاً أم عقارًا، وإن أذن البائع وقبض الثمن، وذلك لحديث حكيم بن حزام وحديث عبد الله بن عمرو وحديث زيد بن ثابت المتقدم ذكرها. وعلل الشافعية النهي عن البيع قبل القبض بضعف الملك قبل القبض ولانفساخ العقد بتلفه.

وعلل الحنابلة بأنه لم يتم الملك عليه فلم يجز بيعه كما لو كان غير متعين.

2- مذهب الحنفية أنه لا يصح بيع المنقول قبل قبضه، ولا يفرق الحنفية في ذلك بين الطعام وغيره من المنقولات، وذلك لقول ابن عباس - كما تقدم - ولا أحسب كل شيء إلا مثله، أي مثل الطعام، ويعضد قول ابن عباس رضي الله عنهما ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ابتعت زيتًا في السوق فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني فيه ربحًا حسنًا، فأردت أن أضرب على يده (أي أقبل إيجابه وأتفق على العقد)، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفتُّ فإذا زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم).

وأجاز الشيخان- أبو حنيفة وأبو يوسف - بيع العقار قبل قبضه استحسانًا.

3- مذهب المالكية أن المُحَرَّمَ المُفْسِدَ للبيع هو بيع الطعام دون غيره من جميع الأشياء قبل قبضه سواءٌ أكان الطعام ربويًا كالقمح أم غير ربوي كالتفاح عندهم، وذلك أخذًا بظاهر حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، ولغلبة تغير الطعام دون سواه، ولكن مالكًا اشترط شرطين لفساد هذا النوع من البيع:

أ- أن يكون الطعام مأخوذًا بطريق المعاوضة أي في مقابلة شيء بخلاف ما كان هبة أو ميراثًا.

ب- أن تكون المعاوضة بالكيل أو الوزن أو العدد.

4- مذهب الحنابلة فيه روايات متعددة في الممنوع بيعه قبل قبضه. سبق بعضها وهي ما وافق مذهب الشافعية، وفي رواية أخرى قصر المنع على الطعام كمذهب المالكية لكن على تعميم المنع لبيع الطعام بلا شرطٍ خلافًا لمالك الذي اشترط شرطين لمنع بيع الطعام. وفي رواية ثالثة أن ما كان متعينًا - كالصبرة تباع من غير كيل - يجوز بيعها قبل قبضها، وما ليس بمتعين - كقفيز من صُبْرَةِ، أو رطل من زَبْرَةِ حدِيدٍ - فإنه لا يجوز بيعها حتى تكال أو توزن. ففي هذه الرواية توسع بالزيادة على الطعام. اهـ. باختصار.

قال ابن عبد البر: على هذا سائر الفقهاء بالعراق والحجاز، وهو قول مالك، لو كانت السلعة طعامًا لم يختلف قوله في ذلك ؛ لأنه باع طعامًا ليس عنده قبل أن يستوفيه، وكأنه حمل نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن ربح ما لم يَضْمَنْ، وبيع ما ليس عندك على الطعام بتعين، وشك في غير الطعام. والله أعلم.

وحمله عشرةٌ من العلماء على العموم في بيع ما ليس عند البائع، وهو الأحوط، وبالله التوفيق.

أقول: وعلى ذلك فإن بعض من يملكون مالاً يذهب بعض الناس ويقول لأحدهم بعْ لي سلعة كذا - ثلاجة أو سيارة أو غير ذلك - مما ليس عنده فيبيعه، ويعقد معه الصفقة ويتممها بالتقسيط، ثم يذهب معه لشرائها من التاجر، ويسلمها له، فيكون بذلك باع نقودًا بنقود - كما فسره ابن عباس رضي الله عنهما مع الزيادة، وهذا هو الربا بعينه، أو أنه بعد ما يتم الصفقة معه يدفع له ثمن السلعة ويقول له: اذهب واشترها من التاجر الفلاني. فيكون قد أعطى من أراد السلعة نقودًا واستردها نقودًا بالزيادة، وهذا هو الربا. وقد مضى قول الفقهاء أن هذا نوع تحايل على أكل الربا.

وللخروج من هذه المخالفات ؛ يمكن لمن يبيع هذا النوع من البيع: أولاً ألا يعقد الصفقة مع المشتري قبل أن يشتري السلعة (ليخرج من بيع ما ليس عنده ومن ربح ما لم يضمن).

وثانيًا: يشتري السلعة من التاجر أو المصنع أو غيرها ويحوزها في ملكه، ثم يبيعها بعد ذلك بشروط البيع التي منها حرية المشتري في أن يقبل شراءها أو يعدل عن الشراء، فيخرج بذلك من النهي عن بيع ما لم يقبض.

فإذا توفر هذان الأمران: عدم إتمام البيع قبل شراء السلعة، ثم نقل السلعة إلى حوزته فإن البيع حينئذ يكون صحيحًا لا مخالفة فيه إن شاء الله.

والتزام أوامر الشرع ونواهيه فيه مصلحة العباد والبلاد.

ولقد رأينا حرص الصحابة على النصح وعلى التناصح فيما بينهم، وعلى تعليم الأمة أمر دينها والتزامهم شرع الله التماسًا لبركة الله تعالى، وحرصًا على طيب الكسب وعدم أخذه إلا من حله، والابتعاد عن كل ما نهى عنه الشرع، وهذا من نصر دين الله، فإن الأمة إذا نصرت الله نصرها، وإن أعرضت عن شرع الله فليس لها إلا المعيشة الضنك في الدنيا، والعذاب في الآخرة.

نسأل الله أن يرد المسلمين إلى دينهم ردًا جميلاً، وأن يهيء لهم من أمرهم رشدًا، وأن يخرج الأمة من ظلمات المعاصي والجهل إلى نور الطاعة والعلم والعمل بالشرع، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

عدد المشاهدات 5780