زمن الفتن وذهاب الأمانة

2012-07-18

زكريا حسينى

 زمن الفتن وذهاب الأمانة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين ... وبعد:

عن حذيفة قال: حدثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها قال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المَجْلِ كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرًا وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلانٍ رجلاً أمينًا، ويقال للرجل: ما أعقلَهُ وما أظرفَهُ وما أجلدَهُ وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولقد أتى عليَّ زمانٌ وما أبالي أيَّكم بايعت، لئن كان مسلمًا ردَّه عليَّ الإسلام، وإن كان نصرانيّا ردَّهُ عليَّ ساعيه، فأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلانًا وفلانًا».

هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه واللفظ له في ثلاثة مواضع؛ الموضع الأول في كتاب الرقاق باب «رفع الأمانة» برقم (6496)، والموضع الثاني في كتاب الفتن باب «إذا بقي في حثالة من الناس» برقم (7086) والثالث في كتاب الاعتصام باب «الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم» برقم (7276) مختصرًا.

كما أخرجه الإمام مسلم في كتاب الإيمان باب «رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب» برقم (367)، وأخرجه ابن ماجه في أبواب الفتن باب «ذهاب الأمانة» برقم (4053)، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (5/383) كما في المعجم.

راوي الحديث:

هو الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان، وهوحذيفة بن حُسَيْلٍ، ويقال: حِسْلُ بن جابر بن أسيد بن عمرو بن مالك، ويقال: حذيفة بن اليمان بن جابر بن عمرو، صاحب سرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال المزي في تهذيب الكمال: شهد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أُحُدًا هو وأبوه، وقُتِل أبوه يومئذ، قتله المسلمون خطأ، أرادا أن يشهدا بدرًا فاستحلفهما المشركون أن لا يشهدا مع النبي صلى الله عليه وسلم فحلفا لهم، ثم سألا النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: «انصرفا، نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم». رواه مسلم . وهذا والله نعم التوجيه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ونعم الوفاء، مع أنه مع المشركين، لكن المسلم إذا عاهد عهدًا، أو ميثاقًا وجب عليه الوفاء به حتى مع المشركين فضلاً عن العصاة والفساق، فكيف بالمتقين المطيعين.

كما ذكر المزي رحمه الله تعالى بسنده عن صلةَ بن زفَر قال: قلنا لحذيفة: كيف عرفت أمر المنافقين ولم يعرفه أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ولا عمر ؟ قال: إني كنت أسير خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنام على راحلته، فسمعت ناسًا منهم يقولون: لو طرحناه عن راحلته فاندقت عنقه فاسترحنا منه، فسرت بينهم وبينه، وجعلت أقرأ وأرفع صوتي فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من هذا ؟» قلت: حذيفة، قال: «من أولئك ؟» قلت: فلان وفلان حتى عددتهم، قال: «أو سمعت ما قالوا ؟» قلت: نعم، ولذلك سرت بينك وبينهم، قال: «فإن هؤلاء فلانًا وفلانًا - حتى عد أسماءهم - منافقون، لا تخبرنَّ أحدًا».

شرح الحديث:

قال الإمام النووي: قول حذيفة رضي الله عنه: حدثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حديثين: معناه: حدثنا حديثين في الأمانة، وإلا فروايات حذيفة كثيرة في الصحيحين وغيرهما . وأما الأمانة فهي كل ما افترض الله تعالى على عباده من كلمة التوحيد ومن الصلاة والزكاة وأداء الدَّيْن، وآكد الأمانة الودائع وآكد الودائع كتم الأسرار، وقد قيل إن الأمانة تشتمل على ثلاثة عناصر:

1- عفة الأمين عما ليس له بحق .

2- تأدية الأمين ما يجب عليه من حق لغيره.

3- اهتمام الأمين بحفظ ما استؤمن عليه، وعدم التفريط بالأمانة أو التهاون بشأنها.

وقد بيّن بعض العلماء أن للأمانة مجالات تشمل نواحي الحياة كلها ومن ذلك أنها تدخل في الدين والعرض والمال والأجساد والأرواح والمعارف والعلوم والولاية والوصَاية والشهادة والقضاء والكتابة ونقل الحديث والأسرار، والحواس كلها. إلخ ذلك.

ولقد نقل ابن الجوزي رحمه الله عن بعض المفسرين أن الأمانة جاءت في القرآن الكريم على ثلاثة معان: أحدها الفرائض كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] .

والثاني الوديعة، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] . والثالث: العفة والصيانة كما في قوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] . والأمانة من أبرز وأعظم أخلاق الرسل وصفاتهم عليهم الصلاة والسلام، فنوح وهود وصالح وشعيب ولوط كل واحد منهم قال لقومه: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} كما ورد في سورة الشعراء.

ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم كان مشهورًا بين قومه - قبل الرسالة وبعدها - بأنه الأمين، حتى إن الناس كانوا - يختارونه لحفظ ودائعهم عنده، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم وَكَلَ أمرَ ردِّ الأمانات إلى ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فردها إلى أصحابها .

وجبريل عليه السلام - أمين الوحي قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}، وأما الخيانة - وهي ضد الأمانة - فإنها من صفات المنافقين، فقد ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث؛ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» . متفق عليه، وكذا ثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر». متفق عليه واللفظ للبخاري .

وقول حذيفة: «أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال» قال النووي: أما الجذر فهو بفتح الجيم وكسرها لغتان وهو الأصل . ونقل عن صاحب التحرير قوله: الأمانة في الحديث هي الأمانة المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} الآية، وهي عين الإيمان، فإذا استمكنت من قلب العبد قام حينئذ بأداء التكاليف واغتنم ما يرد عليه منها وجَدَّ في إقامتها، والله أعلم .

قوله عليه الصلاة والسلام: «فيظل أثرها مثل الوَكْت» هو بفتح الواو وسكون الكاف وبالتاء المثناة، وهو الأثر اليسير، وقيل هو سواد يسير أو لون يحدث مخالفًا للون الجلد الذي كان قبله . قال النووي: وأما «المَجْل» فبفتح الميم وسكون الجيم وفتحها لغتان، والمشهور الإسكان، يقال منه: مَجِلَتْ تَمْجَلُ، ومَجَلَتْ تَمْجُلُ، والمصدر في الأول بفتح الجيم وفي الثاني بإسكانها، قال أهل اللغة: المجل هو التنفط الذي يصير في اليد من أثر العمل بفأس أو نحوها ويصير كالقبة فيه ماء قليل .

قوله: «كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا وليس فيه شيء»، الجمر معروف، وكذلك الدحرجة معروفة أيضًا، وأما نَفِط بفتح النون وكسر الفاء، ويقال أيضًا تنفط بمعناه أي انتفخ، ومنتبرًا أي مرتفعًا، والانتبار الارتفاع ومنه أُخِذَ المنبر لارتفاعه وارتفاع الخطيب عليه .

وفي رواية مسلم وابن ماجه: «ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله» أي أن حذيفة رضي الله عنه أخذ حصى فدحرجه على رجله شارحًا لمن يسمعونه ويحضرون مجلسه بطريقة عملية صورة دحرجة الجمر على الرجل .

نقل النووي عن صاحب التحرير قوله: معنى الحديث أن الأمانة تزول عن القلوب شيئًا فشيئًا، فإذا زال أول جزء منها زال نورها وخلفته ظلمة كالوكت وهو اعتراض لون مخالف للون الذي قبله، فإذا زال شيء آخر صار كالمجل وهو أثر محكم لا يكاد يزول إلا بعد مدة، وهذه الظلمة فوق التي قبلها، ثم شبه زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب وخروجه بعد استقراره فيه واعتقاب الظلمة إياه يدحرجه على رجله حتى يؤثر فيها، ثم يزول الجمر ويبقى التنفط.

قوله: «ولقد أتى عليَّ زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلمًا ردَّه عليَّ الإسلام، ولئن كان نصرانيّا رده عليَّ ساعيه، فأما اليوم فما كنت لأبايع إلا فلانًا وفلانًا».

فمعنى المبايعة هنا كما قال النووي وغيره من العلماء: البيع والشراء المعروفان، ومراده: أني كنت أعلم أن الأمانة لم تنزع ولم ترتفع وأن في الناس وفاءً بالعهود، فكنت أُقْدِمُ على التعامل والتبايع مع من شئت غير باحث عن حاله وأمانته وثوقًا بالناس وأمانتهم، فإنه إن كان مسلمًا فدينه وأمانته تمنعه من الخيانة وتحمله على أداء الأمانة، وإن كان كافرًا فساعيه وهو الوالي عليه كان أيضًا يقوم بالأمانة في ولايته فيستخرج حقي منه، وأما اليوم فقد ذهبت الأمانة فما بقي لي وثوق بمن أبايعه ولا بالساعي في أدائهما الأمانة فما أبايع إلا فلانًا وفلانًا، يعني أفرادًا من الناس أعرفهم وأثق بهم .

ثم نقل النووي عن صاحب التحرير والقاضي عياض رحمهما الله تعالى قولهما: وحمل بعض العلماء المبايعة هنا على بيعة الخلافة وغيرها من المعاقدة والتحالف في أمور الدين، قالا: وهذا خطأ من قائله ففي هذا الحديث مواضع تبطل قوله، منها قوله: ولئن كان نصرانيّا (أو يهوديّا) كما في رواية مسلم، ومعلوم أن النصراني واليهودي لا يُعَاقَدُ على شيء من أمور الدين . والله أعلم.

وإذا كان هذا في زمان حذيفة رضي الله عنه - في خير القرون- فماذا يقال في زماننا هذا الذي بلا شك هو شر مما قبله، وهذا آخر الزمان عند اقتراب الساعة، وقد ضيعت الأمانة، كما ثبت من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي سأله عن الساعة قال له: «إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة»، قال الأعرابي: كيف إضاعتها ؟ قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة». أخرجه البخاري.

فأين الآن التاجر الأمين ؟ وأين الصانع الأمين؟ وأين الزارع الأمين ؟ وأين المعلم المربي الأمين ؟ وأين الطبيب الأمين ؟ وأين المهندس الأمين ؟ وأين الموظف الأمين؟ وأين، وأين، وأين ؟ إن الأمين في كل فن وكل عمل وكل علم أندر من النادر اليوم، ولن يصلح الزمان إلا بأهله، ولن يصلح الناس إلا بالأمانة، ولقد جعل الله عز وجل حفظ الأمانة وأداءها من صفات عباد الله المؤمنين المتقين، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}.

نسأل الله تعالى أن يرد المسلمين إلى دينهم وأمانتهم ردّا جميلاً، وأن يحسسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

عدد المشاهدات 5753