الخوف من الله سبيل الوصول إلى رضاه

2012-05-20

أحمد عبد السلام

الخوف من الله سبيل الوصول إلى رضاه

عناصر الخطبة:

1-مقدمة

2-تعريف الخوف

3-أقوال السلف في بيان أهمية الخوف

4-حد الخوف المشروع

5-أسباب تحصيل الخوف

6-ثمرات الخوف في الدنيا والآخرة.

 

مقدمة : أيها المؤمنون، إن الخوف من الله تعالى من أجل العبادات، ومن أعظم القربات، فهو الذي يحول بينكم وبين محارم الله عز وجل ومعاصيه، فلِلَّه ما أعظمه، ولله ما أحوجنا إليه، ولله ما أحسن عاقبته في الدنيا والآخرة، إذ بالخوف ـ يا عباد الله ـ ينزع العبد عن المحرمات، وبه يقبل على الطاعات، فهو ـ والله ـ أصل كل فضيلة، وباعث كل قربة.

*فما الذي أقض مضاجع الصالحين فكانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون....

*وما الذي أجرى من خشية الله عز وجل الدموع وأسكن في القلب الهيبة لله عز وجل والخشوع...

*فكم أطلق الخوف من سجين في لذته كانت قد استحكمت عليه سكرته وكم فك من أسير للهوى ضاعت فيه همته وكم أيقظ من غافل التحف بلحاف شهوته وكم عاق لوالديه رده الخوف عن معصيته، وكم من فاجر في لهوه قد أيقظه الخوف من رقدته، وكم من عابدٍ لله قد بكى من خشيته وكم من منيب إلى الله قطع الخوف مهجته وكم من مسافر إلى الله رافقه الخوف في رحلته وكم من محبٍّ لله ارتوت الأرض من دمعته، فلله ما أعظم الخوف لمن عرف عظيم منزلته..

*إنها الخصلة التي ما تمكنت من قلب عبد إلا قادته إلى الله وعلقته بالله جل في علاه..إنها الخصلة التي عمر الله بها قلوب الأخيار فهذبت أخلاقهم وقومت أفعالهم وسلوكهم،فوالله ما هذب المؤمن شيء أجل وأكرم من الخوف من الله،فلن تجد إنسانا يخاف الله إلا وجدته أعف الناس لسانا وأصدقهم كلاما وبيانا وأحفظهم لحدود الله عز وجل في قوله وفعله،ولن تجد إنسانا جريئا على محارم الله

وحدود الله إلا وجدته ناقص الخوف من الله. إن الخوف من الله تعالى هو من أخص صفات عباد الله المتقين وأوليائه المحسنين، قال الله تعالى:"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا"  قال الإمام الطبري رحمه الله: "المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وجِل قلبه، وانقاد لأمره، وخضع لذكره، خوفًا منه، وفَرَقًا من عذابه". الخوف من الله عبادة قلبية عظيمة لا تصدر إلا من مؤمن صادق الإيمان، فلذلك كانت له  المنزلة العالية والفضيلة العظيمة عند الله عز وجل. فما هو تعريف الخوف وما هي حقيقته؟

تعريف الخوف: أما الخوف فهو من مادة:خوف التي تدل على الذعر والفزع في اللغة العربية.

أما في الشرع:قال ابن قدامة: اعلم : أن الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال .وقيل: أن يترقب العقوبة و يتجنب عيوبه، و قيل انزعاج السريرة لما عمل من الجريرة).

*ولنعلم جميعا أن هذه النفس التي جبلت على حب الشهوات لن تستقيم لنا على طريق الله وطاعته إلا إذا سقناها بعصا الخوف من الله.

قال ابن قدامة: (( اعلم بأن الخوف سوط الله يسوق الله به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل لينالوا بهما رتبة القرب من الله عز وجل، والخوف سراج القلوب به يبصر ما فيه من الخير والشر))  

قال الفضيل بن عياض: من خاف الله دله الخوف على كل خير،وكل قلب ليس فيه خوف الله، فهو قلب خراب.

قال عمر بن مسلمة الحداد : الخوف سراج القلب به يبصر ما فيه من الخير و الشر، وكل أحد إذا خفته هربت منه، إلا الله عز جلّ فإنك إذا خفته هربت إليه.

قال ذو النون: الناس على الطريق ما لم يَزُل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلّوا الطريق.وقال أبو سليمان الداراني: "ما فارق الخوف قلبًا إلا خرب".وعن إبراهيم بن شيبان قال: الخوف إذا سكن القلب أحرق مواضع الشهوات فيه، وطرد منه رغبة الدنيا، وأسكت اللسان عن ذكر الدنيا.

قال ابن القيم رحمه الله: "ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الخوف، وهى من أجل منازل الطريق وأنفعها للقلب، وهي فرض على كل أحد".

وقال أيضاً: "القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه؛ فمتى سلم الرأس والجناحان؛ فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس؛ مات الطائر، ومتى فقد الجناحان؛ فهو عرضة لكل صائد وكاسر".

ولكن ليس كل خوف محمود في الشرع فما هو حد الخوف المشروع؟

حد الخوف المشروع:

فالخوف المحمود هو ما دفع صاحبه إلى عمل الطاعات، وحجزه عن فعل المحرمات.

وأحسن من عرَّف الخوف ابن تيمية شيخ الإسلام رحمه الله،يقول: " حد الخوف ما حجبك عن المعاصي، وما زاد فلا يُحتاجُ إليه "، وصدق رحمه الله.

قال ابن رجب : "القدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم؛ فإن زاد على ذلك؛ بحيث صار باعثاً للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات والتبسط في فضول المباحات؛ كان ذلك فضلاً محموداً، فإن تزايد على ذلك؛ بأن أورث مرضاً أو موتاً أو وهماً لازماً؛ بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز وجل؛ لم يكن محموداً".

 قال ابن القيم: " السلف استحبوا أن يقوي في الصحة جناح الخوف على الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوي جناح الرجاء على جناح الخوف.و قال: ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا غلب الرجاء فسد.

وقد يسأل سائل:كيف نحقق الخوف من الله عز وجل؟نقول هناك أسباب إذا أخذت بها أورثتك خوف الله وخشيته وهي:

الأسباب التي تورث الخوف من الله:

1- تذكر عظمة الله وكبريائه ومعرفة حقارة النفس.فمما يستجلب به الخوف: معرفة أسماء الله وصفاته وقوته وجبروته وعظمته، فمن عرف الله حق معرفته خاف منه حق خوفه، ولذلك كان السلف يقولون: من كان لله أعرف فهو لله أخوف.

قال ابن قدامة:فقوة المراقبة والمحاسبة بحسب قوة الخوف، وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله تعالى، وصفاته، وبعيوب النفس، وما بين يديها من الأخطار والأهوال .

فمن تأمل أسماء الله وصفاته ونظر فيها بعين الإيمان، وتأمل فيها ونظر لنفسه بالعجز، علم وأيقن أن الله لا يعجزه شيء في الأرض

ولا في السماء وأنه لو عذب أهل السموات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم.وهذه بعض النصوص التي تبين قدرة الله وقوته وجبروته سبحانه وتعالى. 

في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر من أحبار اليهود إلى رسول الله فقال: يا محمد، إنا نجد عندنا أن الله عز وجل يجعل السموات على إصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع،ثم يهزهن ويقول: أنا الملك. فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله :" وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"هذه الآية قرأها النبي صلى الله عليه وسلم فرجف به المنبر حتى قال الصحابة ليخرنّ به ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول (( يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيده و قبض يده فجعل يقبضها و يبسطها ثم يقول أنا الجبار أين الجبارون أين المتكبرون)) ويتمايل الرسول صلى الله عليه وسلم عن يمينه وشماله حتى نظر صحابي إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى قال أساقط هو برسول الله؟!!  

وعند مسلم من حديث أبي موسى قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال" إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور وفي رواية (النار) لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".  فعلى قدر العلم بالله و بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله، ومعرفة العبد بنفسه؛ يكون الخوف والخشية، كما قال النبي : ((أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)).ويقول تعالى عن الأنبياء عليهم السلام:" الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ" وقد وصف الله تعالى الملائكة بقوله" يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ".بل إن الله عز وجل حصر خشيته في صنف واحد من الناس ألا وهم العلماء فقال تعالى" إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ"

2-تدبر القرآن: قال ابن القيم:ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته.

قال تعالى" كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ"

يقول ابن الجوزي: (( والله لو أن مؤمناً عاقلاً قرأ سورة الحديد وآخر سورة الحشر وآية الكرسي وسورة الإخلاص بتفكر وتدبر لتصدّع قلبه من خشية الله وتحيّر من عظمة الله ربّه)).

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ، قَالَ: «نَعَمْ» فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، قَالَ: «حَسْبُكَ الآنَ» فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ"

ويقول عبد الله الشخير بن عوف - رضي الله عنه - : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء.

وها هو عمر بن الخطاب يقرأ سورة الطور حتى إذا بلغ قول الله عز وجل "إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ"  بكى واشتد بكاؤه، حتى مرض وعاده الناس.

3-التفكر في سوء الخاتمة:السعيُ لحسن الخاتمة غايةُ الصالحين، وهمةُ العباد المتقين، ورجاء الأبرار الخائفين، قال الله تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"

 وقال تعالى في وصف أولي الألباب: رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ" وقال تعالى عن التائبين: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ"  

وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن - عز وجل - كقلبٍ واحد يُصرِّفه حيث يشاء»، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم مُصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك»؛ رواه مسلم. فمن وفَّقه الله لحُسن الخاتمة فقد سعِدَ سعادةً لا يشقى بعدها أبدًا، ولا كربَ عليه بعد ذلك التوفيق، ومن خُتِمَ له بسوء الخاتمة فقد خسِر في دنياه وأُخراه.

قال البخاري في "صحيحه": "قال ابن أبي مُلَيْكة: أدركتُ ثلاثين من الصحابة كلهم يخافُ النفاقَ على نفسه".

وقال ابن رجب: "وكان سفيان الثوري يشتدُّ قلقه من السوابق والخواتم، فكان يبكي ويقول: أخافُ أن أكون في أمِّ الكتاب شقيًّا، ويبكي ويقول: أخافُ أن أُسلَبَ الإيمان عند الموت".وقام ليلة يبكي حتى أصبح فلما سألوه:أكل هذا خوفا من الذنوب؟فقال وقد امسك تبنة من الأرض:والله لذنوبي أحقر عندي من هذه،ولكن أخشى سوء الخاتمة!!

وقال بعض السلف: "ما أبكى العيون ما أبكاها الكتابُ السابق".

وقد قيل: "إن قلوب الأبرار مُعلَّقةٌ بالخواتيم يقولون: ماذا يُختَم لنا؟!، وقلوب المُقرَّبين مُعلَّقةٌ بالسوابق يقولون: ماذا سبق لنا؟! ". فلماذا لا نخاف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم"َإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّار"َ

4- تذكر الموت ومشاهد الآخرة:

قال الحسن:"ما ظنك بيوم قاموا فيه على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة، لا يأكلون فيها أكلة ولا يشربون فيه شربة، حتى إذا انقطعت أعناقهم عطشاً، واحترقت أجوافهم جوعاً، انصرف بهم إلى النار فسقوا من عين آنية قد آن حرها،واشتد لفحها".

وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الخائفين، فقال: (قلوبهم بالخوف قرحة، وأعينهم باكية، يقولون كيف نفرح والموت من ورائنا والقبر أمامنا، والقيامة موعدنا وعلى جهنم طريقنا وبين يدي الله موقفنا؟!).

وروي عن ميسرة بن أبي ميسرة أنه كان إذا آوى إلى فراشه يقول: يا ليتني لم تلدني أمي، فقالت له أمه حين سمعته: يا ميسرة، إن الله قد أحسن إليك، هداك للإسلام، قال: أجل، ولكن الله قد بين لنا أنا واردون على النار، ولم يبين لنا أنا صادرون عنها. يعني قوله تعالى: وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:70].

 وقال معاذ بن جبل: (إن المؤمن لا يسكن روعه حتى يترك جسر جهنم وراءه).

وكان عمر بن عبد العزيز إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، ويبكي حتى تجري دموعه على لحيته، وبكى ليلةً فبكى أهل الدار لبكائه، ولا يعلمون ما به، فقالت له زوجه: (ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟) قال: (ذكرت منصرف القوم من بين يدي الله تعالى فريق في الجنة وفريق في السعير).

 ومرّ الحسن البصري رحمه الله بشاب وهو مستغرق في ضحكه جالس مع قوم فقال له الحسن: "يا فتى هل مررت بالصراط؟، قال: لا. قال: فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ قال: لا. قال: فما هذا الضحك؟ قال : فما رُئِيَ ذلك الفتى بعدها ضاحكًا".

5- النظر في سير السالفين:  فمع صلاحهم وتقواهم لله عز وجل وبعدهم كل البعد عن محارم الله إلا أنهم كانوا على خوف ووجل شديد من الله تعالى وعلى رأس هؤلاء :

أ- رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول" والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصَعُدات تجأرون إلى الله تعالى"

ويقول عبد الله الشخير بن عوف - رضي الله عنه - : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء. وهذا يفسر لنا ما كان عليه النبي من شدة الحذر من عقاب الله، والخوف من سخطه، ففي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا كان يوم الريح والغيم عُرف ذلك في وجهه، وأقبل وأدبر، فإذا مَطَرَت سُرَّ به، وذهب عنه ذلك، قالت عائشة: فسألته فقال ((يا عائشة، ما يُؤْمِنّي أن يكون فيه عذابٌ، عُذّب قوم بالريح، وقد رأى قومٌ العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا)).ولما كسفت الشمس في عهده خرج إلى المسجد مسرعًا فزعًا، يجرُّ رداءه من شدة الفزع، فلما فرغ من تلك الصلاة خطب خطبة عظيمة بليغة، كان منها أن قال : يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا))

ب- وهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه- يمسك بلسانه ويقول هذا الذي أوردني الموارد، وكان يبكي كثيراً خوفاً من الله. وكان إذا صلى لم يفهم الناس ما يقرأ من شدة أسفه وبكائه.

ويقول: وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن، وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله عز وجل.ويقول: يا ليتني خَضرة تأكلني الدواب.

ج- وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -وكان في وجهه - رضي الله عنه - خطان أسودان من البكاء، وكان يسأل حذيفة بن اليمان، أنشدك الله: هل سماني لك رسول الله ، يعني من المنافقين. فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحدا. وهاهو ينقش على خاتمه: (كفى بالموت واعظاً يا عمر). ويقول:(( يا ليتني كنت هذه التبنة))((يا ليتني لم أكن شيئاً مذكوراً))(( يا ليت أمي لم تلدني )) ويقول(( لو مات جمل ضياعاً على جانب الفرات لخشيت أن يسألني عنه الله يوم القيامة)). ويقول: (( لو نادى منادٍ من السماء يا أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا واحداً لخفت أن أكون أنا هو))..!!

وقال لابنه وهو يموت: ويحك ضع خدي على الأرض لعل الله يرحمني. ثم قال: ( ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي ). وها هو ينام

على فراش الموت فيدخل عليه ابن عباس ،فيقول ابن عباس : (أبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! لقد صحبت رسول الله فأحسنت صحبته، ثم توفي رسول الله وهو عنك راض، ثم صحبت خليفة رسول الله فأحسنت صحبته، ثم توفي أبو بكر وهو عنك راض، ثم صحبت أصحاب رسول الله فأحسنت صحبتهم، ولئن مت اليوم فوالله إنهم عنك لراضون، فقال عمر : ذلك منٌّ منَّ الله به عليّ، ثم قال -: والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه).

د- وهذا عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، كان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته، وقال: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير. ويقول : (( وددت لو أنني لو مت لم أبعث)) وهو الذي كان يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً ويتخرق مصحفه من كثر ما قرأ به ، ومات ودمه على المصحف شهيداً..  

 ر- وهذا سفيان الثوري:يبول دما من خوفه من الله لما حمل ماء بوله إلى طبيب في علته التي مات فيها نظر الطبيب في هذا الماء وقال: هذا ماء رجل قد أحرق الخوف جوفه.

وها هو ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة فيقول له حماد : أبشر يا أبا عبد الله ! إنك مقبل على من كنت ترجوه وهو أرحم الراحمين، فقال له سفيان : أسألك بالله يا حماد ! أتظن أن مثلي ينجو من النار؟!

ز- وهذا الشافعي: لما نام على فراش الموت دخل عليه المزني فقال له المزني : كيف أصبحت يا إمام؟! فقال الشافعي : أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، ولعملي ملاقياً، وعلى الله وارداً، فلا أدري أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها؟ثم أنشد قائلاً:

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي * جعلت الرجا مني لعفوك سلما

تعاظـمـني ذنبي فلما قرنته  * بعفوك ربي كان عفوك أعظما

س- وكان مالك بن دينار يقوم الليل يبكي للعزيز الغفار، وهو قابض على لحيته ويقول: يا رب! يا رب! لقد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدارين منزل مالك بن دينار ؟!

ش- وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله إذا ذكر الموت خنقته العبرة وكان يقول : الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب.

قال ابن قدامة المقدسي:عقب ذكره جملة من أخبار الخائفين والخاشعين:

(فهذه مخاوف الملائكة والأنبياء والعلماء والأولياء، ونحن أجدر بالخوف منهم، ولكن ليس الخوف بكثرة الذنوب، ولكن بصفاء القلوب وكمال المعرفة، وإنما أمِنّا لغلبة جهلنا وقوة قساوتنا؛ فالقلب الصافي تحركه أدنى مخافة، والقلب الجامد تنبو عنه كل المواعظ).

ثمرات الخوف من الله:

أ- الخوف يحمل المرء على الطاعة وعلى الإخلاص فيها: قال تعالى"إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ"

وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : ((سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية (( الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة)) أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال : لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم)).

قال الحسن رحمه الله: "عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانًا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنًا، ولقد أمر الله نبيه أن يقول:" قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ"

قال تعالى"يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا"

وقال تعالى" فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ"

ب- سبب للتمكين في الأرض:

قال الله تعالى" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ"

 ج- سبب للناجاة من أهوال يوم القيامة:

 عن شداد بن أوس أن رسول الله قال: ((قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين، إن أَمِنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمّنته يوم أجمع عبادي))صححه الألباني    

قال المناوي: من كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس.

وقال الحسن البصري حينما قيل له: يا أبا سعيد ! إننا نجالس أقواماً يخوفوننا من الله جل وعلا، حتى تكاد قلوبنا أن تطير من شدة الخوف، فقال الحسن رحمه الله: والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك في الدنيا حتى يدركك الأمن في الآخرة، خير من أن تصحب أقواماً يؤمنونك في الدنيا حتى يدركك الخوف في الآخرة.

ح- سبب لدخول المرء فيمن يظلهم الله

سادس هؤلاء السبعة: قال عليه السلام: ( ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله ).

 الخوف من الله من أعظم أسباب المغفرة:

قال الله تعلى" إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ "

 في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان رجل يسرف على نفسه ممن كان قبلكم -أي: يسرف على نفسه بالمعاصي والذنوب وفي بعض روايات الحديث أنه كان نباشا (يعني يسرق أكفان الموتى) فلما حضرته الوفاة قال لأولاده:أي أب كنت لكم؟قالوا خير أب.فقال: فإذا مت فحرقوني، حتى إذا صرت فحماً فاسحقوني، فإذا كان يوم ريح عاصف فاذروني -وفي لفظ في الصحيح: فاذروا نصفي في البر ونصفي في البحر- ثم قال: فلأن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه، ثم قال لهذا العبد: (كن) فكان، فإذا هو رجل قائم بين يديه، فقال الله له: ما حملك على أن صنعت ما صنعت؟ فقال العبد: مخافتك يا رب! أو خشيتك يا رب! فغفر الله له بذلك ).

سبب لدخول الجنة: قال تعالى" وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ" وقال تعالى" وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى" وقال تعالى" تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"

من خاف الله أخاف الله منه كل شيء

 قال يحيي بن معاذ الرازي: على قدر حبك لله يحبك الخلق وعلى قدر خوفك من الله يخافك الخلق وعلى قدر شغلك بالله يشتغل في أمرك الخلق.

لذلك كان العدو يسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم من مسيرة شهر فيهابه وما ذلك إلا لصدق خوفه صلى الله عليه وسلم من ربه عز وجل.

وهذا عمر بن الخطاب يهابه الأكاسرة والقياصرة وهم على عروشهم وترتعد فرائصهم منه.بل إن إبليس عليه لعنة الله كان يهاب عمر حتى أنه كان لا يجرؤ أن يسلك الفج الذي يسلكه عمر وما ذلك إلا لشدة خوفه رضي الله عنه.....

وهكذا كانت الأمة جميعها في زمن العزة يهابها عدوها ويحسب لها ألف حساب لكن لما تخلت الأمة عن مصدر عزتها وكرامتها وتجرأ أبناؤها على حدود الله وانعدم الخوف في القلوب _إلا من رحم الله- ضاعت هيبة الأمة وتجرأ عليها أجبن وأخس أمم الأرض من أبناء القردة والخنازير اسمع للصادق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم:عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»

عدد المشاهدات 49672