الشورى في الإسلام والفرق بينها وبين الديمقراطية

2012-04-29

هاني الشيخ

الشورى في الإسلام والفرق بينها وبين الديمقراطية

التعريف اللغوى:

قال الزجاج:وقوله جلَّ وعزَّ: (وَشَاوِرْهُمْ في الأمْرِ) .

يقال شاورت الرجل مْشاوَرةً وشَوارا، وما يكون من ذلك فاسمه

المَشُورَة ،ومعنى شاورت فلان أظهرت في الرأي ما عندي وما عنده. [1]

 (وَالشُّورَى) التَّشَاوُرُ (وَقَوْلُهُمْ) تَرَكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْخِلَافَةَ (شُورَى) أَيْ مُتَشَاوَرًا فِيهَا لِأَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَهَا فِي سِتَّةٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهَا وَاحِدًا وَهُمْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.[2]

وَشَاوَرْتُهُ فِي كَذَا وَاسْتَشَرْتُهُ رَاجَعْتُهُ لَأَرَى رَأْيَهُ فِيهِ فَأَشَارَ عَلَيَّ بِكَذَا أَرَانِي مَا عِنْدَهُ فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فَكَانَتْ إشَارَةً حَسَنَةً وَالِاسْمُ الْمَشُورَةُ وَتَشَاوَرَ الْقَوْمُ وَاشْتَوَرُوا وَالشُّورَى اسْمٌ مِنْهُ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ مِثْلُ قَوْلِهِمْ أَمْرُهُمْ فَوْضَى بَيْنَهُمْ أَيْ لَا يَسْتَأْثِرُ أَحَدٌ بِشَيْءٍ دُونَ غَيْرِهِ.[3]

شُورَى: مصدر كالفتيا بِمَعْنى التشاور.[4]

 (الشورى): التشاور وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيز {وَأمرهمْ شُورَى بَينهم} وَالْأَمر الَّذِي يتشاور فِيهِ[5]

ومنه  (المستشار) الْعَلِيم الَّذِي يُؤْخَذ رَأْيه فِي أَمر هام علمي أَو فني أَو سياسي أَو قضائي أَو نَحوه (محدثة)

ومنه أيضا: (المشورة) مَا ينصح بِهِ من رَأْي وَغَيره.[6]

التعريف الاصطلاحى:

وَالشُّورَى إنَّمَا هِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الرَّأْيِ، وَتَوْلِيَةُ مَنْ يَرَوْنَ ذَلِكَ لَهُ.[7]

والشورى أيضا طلب الرأي من أهله، وإجالة النظر فيه، وصولاً إلى الرأي الموافق للصواب.[8]

والشورى: تعني تقليب الآراء المختلفة ووجهات النظر المطروحة في قضية من القضايا واختبارها من أصحاب العقول والأفهام حتى يتوصل إلى الصواب منها أو إلى أصوبها وأحسنها ليعمل به لكي تتحقق أحسن النتائج.[9]

والشورى: هي تبادل الآراء في أمر من الأمور لمعرفة أصوبها وأصلحها لأجل اعتماده والعمل به.[10]

وعرفت الشورى أيضا بأنها: استنباط المرء رأياً فيما يعرض له من الأمور والمشكلات.[11]

وعرّف الشورى الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد بأنها: تبادل الرأي بين المتشاورين من أجل استخلاص الصواب من الرأي, والأنجع من الحلول, والسديد من القرارات.[12]

وعرفها الدكتور هاني الطعيمات قائلاً: الشورى استطلاع رأي الأمة أو من ينوب عنها في أمر من الأمور العامة المتعلقة بها بهدف التوصل فيها إلى الرأي الأقرب إلى الصواب الموافق لأحكام الشرع تمهيداً لاتخاذ القرار المناسب في موضوعه.[13]

والشورى هى: رجوع الحاكم أو القاضي أو آحاد المكلفين في أمر لم يُستَبن حكمه بنص قرآني أو سنة أو ثبوت إجماع إلى من يُرجى منهم معرفته بالدلائل الاجتهادية من العلماء المجتهدين ومن قد ينضم إليهم في ذلك من أولي الدراية والاختصاص.[14]

وهناك من الباحثين من أضفى على الشورى وصف الإيمانية ثم عرفها بناءً على ذلك فقال:

الشورى الإيمانية: هي التعاون في تبادل الرأي ومداولته في أمر من أمور المؤمن أو الجماعة المؤمنة أو الأمة المؤمنة على نهج أو أسلوب وأسس وقواعدَ تحقق أهدافاً وغايات تجتمع كلها لتبحث عن الحق أو ما هو أقرب إليه طاعة وعبادة، ويكون النهج والأسلوب والقواعد والأهداف والغايات كلها ربانية يحددها منهاج الله.[15]

الشورى فى القرآن الكريم

قال تعالى:( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[16]

قال مقاتل:

( وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ وذلك أن العرب فِي الْجَاهِلِيَّة كان إذا أراد سيدهم أن يقطع أمرا دونهم وَلَم  يشاورهم شق ذَلِكَ عليهم. فأمر اللَّه- عَزَّ وجل- النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يشاورهم فِي الأمر إذا أراد فَإِن ذَلِكَ أعطف لقلوبهم عَلَيْه، وأذهب لضغائنهم فَإِذا عَزَمْتَ يَقُولُ فإذا فرق اللَّه  لك الأمر بعد المشاورة فامض لأمرك فَتَوَكَّلْ  عَلَى اللَّهِ يَقُولُ فثق بِاللَّه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.)[17]

قال الشَّافِعِي رحمه الله:

 قال اللَّه تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)

ولم يجعل اللَّه لهم معه - صلى الله عليه وسلم - أمراً، إنما فرض عليهم طاعته، ولكن في المشاورة استطابة أنفسهم، وأن يستنّ بها من ليس له على الناس ما لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -.والاستدلال بأن يأتي من بعض المشاوَرِين بالخير قد غاب عن المستشير، وماأشبه هذا.[18]

وإنما أُمِر بمشاورتهم - واللَّه أعلم - لجمع الألفة،وأن يستن بالاستشارة بعده من ليس له من الأمر ما له، وعلى أن أعظم لرغبتهم وسرورهم أن يشاوروا، لا على أن لأحدٍ من الآدميين مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يرده عنه؛ إذا عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأمر به، والنهي عنه.

قال أبو جعفر الطبرى:

اختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله أمر تعالى ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم، وما المعنى الذي أمره أن يشاورهم فيه؟

فقال بعضهم: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:"وشاورهم في الأمر"، بمشاورة أصحابه في مكايد الحرب وعند لقاء العدو، تطييبًا منه بذلك أنفسَهم، وتألّفًا لهم على دينهم، وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم، وإن كان الله عز وجل قد أغناه = بتدبيره له أمورَه، وسياسته إيّاه وتقويمه أسبابه عنهم.

وعن قتادة، قوله:"وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين"،

أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء، لأنه أطيب لأنفس القوم  وأنّ القوم إذا شاور بعضهم بعضًا وأرادوا بذلك وجه الله، عزم لهم على أرشدِه.

وعن الربيع:"وشاورهم في الأمر"، قال: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه الوحي من السماء، لأنه أطيب لأنفسهم.

وعن ابن إسحاق:"وشاورهم في الأمر"، أي: لتريهم أنك تسمع منهم وتستعين بهم، وإن كنت عنهم غنيًّا، تؤلفهم بذلك على دينهم.

قال آخرون: بل أمره بذلك في ذلك. ليبين له الرأي وأصوبَ الأمور في التدبير،  لما علم في المشورة تعالى ذكره من الفضْل.

وعن الضحاك بن مزاحم قوله:"وشاورهم في الأمر"، قال: ما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشورة، إلا لما علم فيها من الفضل.

وعن الحسن: ما شاور قوم قط إلا هُدُوا لأرشد أمورهم.

وقال آخرون: إنما أمره الله بمشاورة أصحابه فيما أمرَه بمشاورتهم فيه، مع إغنائه بتقويمه إياه وتدبيره أسبابه عن آرائهم، ليتبعه المؤمنون من بعده فيما حزبهم من أمر دينهم، ويستنُّوا بسنَّته في ذلك، ويحتذوا المثالَ الذي رأوه يفعله في حياته من مشاورتَه في أموره = مع المنزلة التي هو بها من الله = أصحابَهُ وتبَّاعَهُ في الأمر ينزل بهم من أمر دينهم ودنياهم،  فيتشاوروا بينهم ثم يصدروا عما اجتمع عليه ملأهم. لأن المؤمنين إذا تشاوروا في أمور دينهم متبعين الحق في ذلك، لم يُخْلهم الله عز وجل من لطفه وتوفيقه للصواب من الرأي والقول فيه. قالوا: وذلك نظير قوله عز وجل الذي مدح به أهل الإيمان: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [سورة الشورى: 38] .

وقال سفيان بن عيينة في قوله:"وشاورهم في الأمر"، قال: هي للمؤمنين، أن يتشاوروا فيما لم يأتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أثر.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أمرَ نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه، تألُّفًا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرةَ التي يُؤْمَنُ عليه معها فتنة الشيطان = وتعريفًا منه أمته مأتى الأمور التي تحزُبهم من بعده ومطلبها،  ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم، كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم يفعله. فأما النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله كان يعرِّفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صوابَ ذلك. وأما أمته، فإنهم إذا تشاوروا مستنِّين بفعله في ذلك، على تصادُقٍ وتأخٍّ للحق،  وإرادةِ جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا حَيْد عن هدى، فالله مسدِّدهم وموفِّقهم.[19]

قال الزجاج:وقوله عزَّ وجلَّ: (وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْر) .أي شاورهم فيما لم يكن عندك فيه وحي، فأما مَا فيه أمر من الله جلَّ وعزِّ ووحي فاشتراك الأراءِ فيه ساقط.وإنما أراد اللَّه عزَّ وجلَّ - بذلك السنة في المشاورة، وأن يكرم أصحابَه بمشاورته إياهم.[20]

قال ابن المنذر: قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}

وعَنْ الحسن، فِي قوله عَزَّ وَجَلَّ " {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} : قد علم الله عَزَّ وَجَلَّ أنه ليس به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده ."[21]

قال ابن أبى حاتم:

وعَنْ عَمْرِو ابن دِينَارٍ قَالَ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَشَاوِرْهُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ.[22]

وفي الذي أُمر بمشاورتهم فيه قولان، حكاهما القاضي أبو يعلى: أحدهما: أنه أمر الدنيا خاصة.

والثاني: أمر الدين والدنيا، وهو أصح.[23]

قال الفخر الرازى:

أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَاوَرَهُمْ فِي وَاقِعَةِ أُحُدٍ فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ، وَكَانَ مَيْلُهُ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ، فَلَمَّا خَرَجَ وَقَعَ مَا وَقَعَ، فَلَوْ تَرَكَ مُشَاوَرَتَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَقِيَ فِي قَلْبِهِ مِنْهُمْ بِسَبَبِ مُشَاوَرَتِهِمْ بَقِيَّةُ أَثَرٍ. فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ بِأَنْ يُشَاوِرَهُمْ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ أَثَرٌ مِنْ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ. الْخَامِسُ: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، لَا لِتَسْتَفِيدَ مِنْهُمْ رَأْيًا وَعِلْمًا، لَكِنْ لِكَيْ تَعْلَمَ مَقَادِيرَ عُقُولِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ وَمَقَادِيرَ حُبِّهِمْ لَكَ وَإِخْلَاصِهِمْ فِي طَاعَتِكَ فَحِينَئِذٍ يَتَمَيَّزُ عِنْدَكَ الْفَاضِلُ مِنَ الْمَفْضُولِ فَبَيِّنْ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ. السَّادِسُ: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ لَا لِأَنَّكَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنْ لِأَجْلِ أَنَّكَ إِذَا شَاوَرْتَهُمْ فِي الْأَمْرِ اجْتَهَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي اسْتِخْرَاجِ الْوَجْهِ الْأَصْلَحِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، فَتَصِيرُ الْأَرْوَاحُ مُتَطَابِقَةً مُتَوَافِقَةً عَلَى تَحْصِيلِ أَصْلَحِ الْوُجُوهِ فِيهَا، وَتَطَابُقُ الْأَرْوَاحِ الطَّاهِرَةِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مِمَّا يُعِينُ عَلَى حُصُولِهِ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ فِي الصَّلَوَاتِ. وَهُوَ السِّرُّ فِي أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ. السَّابِعُ: لَمَّا أمر الله محمدا عليه السلام بمشاورتهم ذل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا وَقِيمَةً، فَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ لَهُمْ قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ وَقَدْرًا عِنْدَ الرَّسُولِ وَقَدْرًا عِنْدَ الْخَلْقِ. الثَّامِنُ: الْمَلِكُ الْعَظِيمُ لَا يُشَاوِرُ فِي الْمُهِمَّاتِ الْعَظِيمَةِ إِلَّا خَوَاصَّهُ وَالْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ، فَهَؤُلَاءِ لَمَّا أَذْنَبُوا عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ، فَرُبَّمَا خَطَرَ بِبَالِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَإِنْ عَفَا عَنَّا بِفَضْلِهِ إِلَّا أَنَّهُ مَا بَقِيَتْ لَنَا تِلْكَ الدَّرَجَةُ الْعَظِيمَةُ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الدَّرَجَةَ مَا انْتُقِصَتْ بَعْدَ التَّوْبَةِ، بَلْ أَنَا أَزِيدُ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مَا أَمَرْتُ رَسُولِي بِمُشَاوَرَتِكُمْ، وَبَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَمَرْتُهُ بِمُشَاوَرَتِكُمْ، لِتَعْلَمُوا أَنَّكُمُ الْآنَ أَعْظَمُ حَالًا مِمَّا كُنْتُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّكُمْ قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ كُنْتُمْ تُعَوِّلُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ وَطَاعَتِكُمْ، وَالْآنَ تُعَوِّلُونَ عَلَى فَضْلِي وَعَفْوِي، فَيَجِبُ أَنْ تَصِيرَ دَرَجَتُكُمْ وَمَنْزِلَتُكُمُ الْآنَ أَعْظُمَ مِمَّا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، لِتَعْلَمُوا أَنَّ عَفْوِي أَعْظَمُ مِنْ عَمَلِكُمْ وَكَرَمِي أَكْثَرُ مِنْ طَاعَتِكُمْ.

واتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا نَزَلَ فِيهِ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمْ يَجُزْ لِلرَّسُولِ أَنْ يُشَاوِرَ فِيهِ الْأُمَّةَ، لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ النَّصُّ بَطَلَ الرَّأْيُ وَالْقِيَاسُ، فَأَمَّا مَا لَا نَصَّ فِيهِ فَهَلْ تَجُوزُ الْمُشَاوَرَةُ فِيهِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ أَمْ لَا؟ قَالَ الْكَلْبِيُّ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: هَذَا الْأَمْرُ مَخْصُوصٌ بِالْمُشَاوَرَةِ فِي الْحُرُوبِ وَحُجَّتُهُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي لَفْظِ «الْأَمْرِ» لَيْسَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْوَحْيُ لَا تَجُوزُ الْمُشَاوَرَةُ فِيهِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ هَاهُنَا عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَالْمَعْهُودُ السَّابِقُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَرْبِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ مُخْتَصًّا بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ:

فَأَشَارَ عَلَيْهِ السَّعْدَانُ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، يَوْمَ الْخَنْدَقِ بِتَرْكِ مُصَالَحَةِ غَطَفَانَ عَلَى بَعْضِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ لِيَنْصَرِفُوا، فَقَبِلَ مِنْهُمَا وَخَرَّقَ الصَّحِيفَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: اللَّفْظُ عَامٌّ خُصَّ عَنْهُ مَا نَزَلَ فِيهِ وَحْيٌ فَتَبْقَى حُجَّتُهُ فِي الْبَاقِي، وَالتَّحْقِيقُ فِي الْقَوْلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ أُولِي الْأَبْصَارِ بالاعتبار فقال: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الْحَشْرِ: 2] وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَيِّدَ أُولِي الْأَبْصَارِ، وَمَدَحَ الْمُسْتَنْبِطِينَ فَقَالَ: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النِّسَاءِ: 83] وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ عَقْلًا وَذَكَاءً، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِالِاجْتِهَادِ إِذَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَالِاجْتِهَادُ يَتَقَوَّى بِالْمُنَاظَرَةِ وَالْمُبَاحَثَةِ فَلِهَذَا كَانَ مَأْمُورًا بِالْمُشَاوَرَةِ. وَقَدْ شَاوَرَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْأُسَارَى وَكَانَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ.[24]

قال الشيخ المراغى:

 (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أي واسلك معهم سبيل المشورة التي اتبعتها فى هذه الواقعة ودم عليها- فإنهم وإن أخطئوا الرأى فيها، فإن فى تربيتهم عليها دون الانقياد لرأى الرئيس وإن كان صوابا نفعا فى مستأنف أمرهم ومستقبل حكومتهم ما حافظوا عليها.

فالجماعة أبعد عن الخطإ من الفرد فى أكثر الحالات، وما ينشأ من الخطر على الأمة بتفويض أمرها إلى واحد مهما حصف رأيه، أشد من الخطر الذي يترتب على رأى الجماعة.

ولما كانت الاستشارة سبيلا للنزاع ولا سيما إذا كثر المستشارون- أمر الله نبيه أن يقرر هذه السنة عملا، فكان يستشير صحبه بهدوء وسكينة ويصغى إلى كل قول ويرجح رأيا على رأى بما يرى فيه من المصلحة والفائدة بقدر المستطاع.

وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالشّورى فى حياته، فكان يسيشير السواد الأعظم من المسلمين، ويخص بها أهل الرأى والمكانة فى الأمور التي يضر إفشاؤها. .[25]

قال السعدى رحمه الله:

{وشاورهم في الأمر} أي: الأمور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر، فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره:

منها: أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله.

ومنها: أن فيها تسميحا لخواطرهم، وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث، فإن من له الأمر على الناس -إذا جمع أهل الرأي: والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث- اطمأنت نفوسهم وأحبوه، وعلموا أنه ليس بمستبد  عليهم، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته، لعلمهم بسعيه في مصالح العموم، بخلاف من ليس كذلك، فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة، ولا يطيعونه وإن أطاعوه فطاعة غير تامة.

ومنها: أن في الاستشارة تنور الأفكار، بسبب إعمالها فيما وضعت له، فصار في ذلك زيادة للعقول.

ومنها: ما تنتجه الاستشارة من الرأي: المصيب، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب، فليس بملوم، فإذا كان الله يقول لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو أكمل الناس عقلا وأغزرهم علما، وأفضلهم رأيا-: {وشاورهم في الأمر} فكيف بغيره؟![26]

قال الطاهر ابن عاشور:"وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ"

وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُشَاوَرَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي يُقْصَدُ مِنْهَا الِاسْتِعَانَةُ بِرَأْيِ الْمُسْتَشَارِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فضمير الْجَمِيع فِي قَوْلِهِ:

وَشاوِرْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً: أَيْ شَاوِرِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ بَيْنِ مَنْ لِنْتَ لَهُمْ، أَيْ لَا يَصُدُّكَ خَطَلُ رَأْيِهِمْ فِيمَا بَدَا مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ أَنْ تَسْتَعِينَ بِرَأْيِهِمْ فِي مَوَاقِعَ أُخْرَى، فَإِنَّمَا كَانَ مَا حَصَلَ فلتة مِنْهُم، وَعشرَة قَدْ أَقَلْتُهُمْ مِنْهَا.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ اسْتِشَارَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، فَالْمُرَادُ الْأَخْذُ بِظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ وَتَأْلِيفِهِمْ، لَعَلَّهُمْ أَنْ يُخْلِصُوا الْإِسْلَامَ أَوْ لَا يَزِيدُوا نِفَاقًا، وَقَطْعًا لِأَعْذَارِهِمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ.

وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الشُّورَى مَأْمُورٌ بهَا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِ (الْأَمْرِ) وَهُوَ مُهِمَّاتُ الْأُمَّةِ وَمَصَالِحُهَا فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ فِي غَيْرِ أَمْرِ التّشريع لأنّ أَمر التَّشْرِيعِ إِنْ كَانَ فِيهِ وَحْيٌ فَلَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَحْيٌ وَقُلْنَا بِجَوَازِ الِاجْتِهَاد للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشْرِيعِ فَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الشُّورَى لِأَنَّ شَأْنَ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى الْأَدِلَّةِ لَا لِلْآرَاءِ، وَالْمُجْتَهِدُ لَا يَسْتَشِيرُ غَيْرَهُ إِلَّا عِنْدَ الْقَضَاءِ بِاجْتِهَادِهِ. كَمَا فَعَلَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ.

فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُشَاوَرَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا هُنَا هِيَ الْمُشَاورَة فِي شؤون الْأُمَّةِ وَمَصَالِحِهَا، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا هُنَا وَمَدَحَهَا.[27]

قال القرطبى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)

قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْأَوَامِرِ الَّتِي هِيَ بِتَدْرِيجٍ بَلِيغٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ مَا لَهُ فِي خَاصَّتِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَبِعَةٍ، فَلَمَّا صَارُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ فِيمَا لِلَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَبِعَةٍ أَيْضًا، فَإِذَا صَارُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ صَارُوا أَهْلًا لِلِاسْتِشَارَةِ فِي الْأُمُورِ.[28]

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالشُّورَى مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَعَزَائِمِ الْأَحْكَامِ، مَنْ لَا يَسْتَشِيرُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فَعَزْلُهُ وَاجِبٌ. هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ .[29]

قَالَ أَعْرَابِيٌّ: مَا غُبِنْتُ قَطُّ حَتَّى يُغْبَنَ قومي، قيل:وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ لَا أَفْعَلُ شَيْئًا حَتَّى أُشَاوِرَهُمْ.[30]

وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلَاةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَفِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَوُجُوهِ الْجَيْشِ فيما يتعلق بالحرب، وجوه والناس فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَوُجُوهِ الْكُتَّابِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْعُمَّالِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْبِلَادِ وَعِمَارَتِهَا.[31]

وَالشُّورَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْآرَاءِ، وَالْمُسْتَشِيرُ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ الْخِلَافِ، وَيَنْظُرُ أَقْرَبَهَا قَوْلًا إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِنْ أَمْكَنَهُ، فَإِذَا أَرْشَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَا شَاءَ مِنْهُ عَزَمَ عَلَيْهِ وَأَنْفَذَهُ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ، إِذْ هَذِهِ غَايَةُ الِاجْتِهَادِ الْمَطْلُوبِ

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: شَاوِرْ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ، فَإِنَّهُ يُعْطِيكَ مِنْ رَأْيِهِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ غَالِيًا وَأَنْتَ تَأْخُذُهُ مَجَّانًا. وَقَدْ جَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخِلَافَةَ- وَهِيَ أَعْظَمُ النَّوَازِلِ- شُورَى. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَتِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لِيَكُنْ أَهْلُ مَشُورَتِكَ أَهْلَ التَّقْوَى وَالْأَمَانَةِ، وَمَنْ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ بَيْنَهُمْ إِلَّا هَدَاهُمْ لِأَفْضَلِ مَا يَحْضُرُ.[32]

 

قال تعالى{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]

قال مقاتل:

كانت قبل الإسلام وقبل قدوم النبي- صلى الله عليه وسلم- المدينة إذا كان بينهم أمر، أو أرادوا أمرا اجتمعوا فتشاوروا بينهم فأخذوا به، فأثنى الله عليهم خيرا.[33]

قال الزجاج: قوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) .

أي لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه، وقيل إنه ما تشاور قوم قَط - إلاهُدُوا لأحسن ما يحضرهم.[34]

قال السمرقندى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ).

يعني:إذا أرادوا حاجة، تشاوروا فيما بينهم. وروي عن الحسن أنه قال: هم الذين إذا حزبهم أمر، استشاروا أولي الرأي منهم.[35]

قال الثعلبى:: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ).

(وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فبالله وكتابه ورسوله غنى عن المشورة، ولكن الله عزّ وجلّ أراد أن تكون بيّنة فلا يبرم أمر الدين والدنيا حتى تشاوروا.)[36]

قال الماوردى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}

فيه أربع أوجه: أحدها: أنهم كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه ثم عملواْ عليه فمدحهم الله تعالى به، قاله النقاش. الثاني: يعني أنهم لانقيادهم إلى الرأي في أمورهم متفقون لا يختلفون فمدحوا على اتفاق كلمتهم. قال الحسن: ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم. الثالث: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وورود النقباء إليهم حتى اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له , قاله الضحاك. الرابع: أنهم يتشاورون فيما يعرض لهم فلا يستأثر بعضهم بخير دون بعض.[37]

قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}

وَكَانَ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا، فَإِذَا وُضِعَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.[38]

قال محمد رشيد رضا:

وَجَعَلَ أُمُورَ سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَحُكُومَتِهَا شُورَى، إِذْ قَالَ فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (42: 38) وَأَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَرِجَالُ الشُّورَى بِالتَّبَعِ لِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَأَرْشَدَ إِلَى رَدِّ أُمُورِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسِّيَاسَةِ وَالْحَرْبِ وَالْإِدَارَةِ إِلَى رَسُولِ اللهِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ.[39]

قال السعدى رحمه الله:

{وَأَمْرُهُمْ} الديني والدنيوي {شُورَى بَيْنَهُمْ} أي: لا يستبد أحد منهم برأيه في أمر من الأمور المشتركة بينهم، وهذا لا يكون إلا فرعا عن اجتماعهم وتوالفهم وتواددهم وتحاببهم وكمال عقولهم، أنهم إذا أرادوا أمرا من الأمور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها، اجتمعوا لها وتشاوروا وبحثوا فيها، حتى إذا تبينت لهم المصلحة، انتهزوها وبادروها، وذلك كالرأي في الغزو والجهاد، وتولية الموظفين لإمارة أو قضاء، أو غيره، وكالبحث في المسائل الدينية عموما، فإنها من الأمور المشتركة، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله.[40]

وجاء فى الحديث عن أبى هريرة رفعه "إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ فَظَهْرُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا، وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌلُكمْ مِنْ ظَهْرِهَا» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ صَالِحٍ المُرِّيِّ، وَصَالِحٌ المُرِّيُّ فِي حَدِيثِهِ غَرَائِبُ يَنْفَرِدُ بِهَا لَا يُتَابَعُ عَلَيْهَا، وَهُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ».[41]

أمثلة على الشورى من القرآن الكريم

قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) } [البقرة: 30، 31].وهذا أول مثال على الشورة فى الأرض وإن كان الله تبارك وتعالى غنيٌّ عن مشاورة أحد من خلقه إلا أن الآية خرجت مخرج الإخبار.

قال تعالى:{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)} [النمل: 32، 33].

وهذه القصة تفيد وجود التشاور بين الحاكم والمحكومين في العصور القديمة فقد أبانت الآية أن ملكة سبأ كانت هي وقومها وثنيون يعبدون الشمس, ولكنها مع ذلك بادرت إلى الاستشارة ولم تنفرد بالرأي دونهم.

قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)} [يوسف:43،44]، وقد طلب الملك الرأي من الملأ في تفسير هذه الرؤيا لكونها متعلقة بمصير الأمة.

وهذا نموذج آخر ذكره القرآن الكريم عن فرعون حينما جاءه موسى يدعوه إلى توحيد الله.

قال تعالى: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) } [الشعراء: 29 - 39].

والآية واضحة الدلالة في طلب الرأي من قبل الملأ غير أن ما يلاحظ عليه هو أن فرعون كان لديه نزعة استبدادية إذ أنه أبدى لهم رأيه في شأن موسى وأنه ساحر وأن موسى يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره فكأنه حرضهم عليه, ومع ذلك فقد كان في جواب قوم فرعون ما يدل على استجابتهم لطلب المشورة وأخذ فرعون بها.

فهذه بعض الأمثلة التى ذكرها القرآن الكريم عن الشورى فى الأمم السابقة والتى تدلك على أن الشورى كانت مبدأً مترسخا حتى عند الأمم الكافرة.

نماذج من الشورى فى السنة النبوية

كما أن الأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة أصحابه جاء من عند الله من أجل تثبيت هذه القاعدة، لا لأنه محتاج لما يملونه عليه وهو الذي لا ينطق عن الهوى، ولكن من أجل ترسيخ هذا المبدء العظيم وترسيخ هذه القاعدة الشرعية، والسنة النبوية حافلة بالتطبيقات العملية لمبدء المشاورة مما يدل على مشروعية الشورى[42]

وهناك نماذج كثيرة فى السنة النبوية اقتصر على ذكر بعضها:

1- استشارته لأصحابه لما أراد الخروج يوم بدر كما قال أنس بن مالك رضى الله عنه:

{أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا، قَالَ: فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا[43]}.

2- أيضا استشارته لأبى بكر وعمر فى شأن أسارى بدر:

{قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ: «مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمُ الْفِدْيَةَ فَتَكُونَ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ، مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنَا مِنْهُمْ فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَنِي مِنْ فُلَانٍ نَسِيبًا لِعُمَرَ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا، وَقَادَتُهَا، قَالَ: فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمِ الْفِدَاءَ، فَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا، وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 68] ، فَأَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ}[44]

3- كما استشار الصحابة أيضا يوم أحد أيخرج إلى الكفار أم يقاتل داخل المدينة:

{وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: تَنَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ الَّذِي رَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحُدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَهُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ رَأْيُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقِيمَ بِالْمَدِينَةِ يُقَاتِلُهُمْ فِيهَا فَقَالَ لَهُ نَاسٌ: لَمْ يَكُونُوا شَهِدُوا بَدْرًا أَتَخْرُجُ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ نُقَاتِلْهُمْ بِأُحُدٍ، وَرَجَوْا أَنْ يُصِيبُوا مِنَ الْفَضِيلَةِ مَا أَصَابَ أَهْلُ بَدْرٍ، فَمَا زَالُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَبِسَ أَدَاتَهُ فَنَدِمُوا وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِمْ فَالرَّأْيُ رَأْيُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَضَعَ أَدَاتَهُ بَعْدَ أَنْ لَبِسَهَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ».}[45]

4- كذلك مشورة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين بلغه خبر خروج الأحزاب وإشارة سلمان بحفر الخندق.

وكانت خزاعة عند ما خرجت من مكة: أتى ركبهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- في أربع ليال- حتى أخبروه، فندب الناس وأخبرهم خبر عدوهم، وشاورهم: أيبرز من المدينة، أم يكون فيها ويخندق عليها، أم يكون قريبا والجبل وراءهم؟ فاختلفوا.

وكان سلمان الفارسيّ يرى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يهم بالمقام بالمدينة- ويريد - أن يتركهم حتى يردوا ثم يحاربهم على المدينة وفي طرقها- فأشار بالخندق فأعجبهم ذلك، وذكروا يوم أحد، فأحبوا الثبات في المدينة. وأمرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالجد، ووعدهم النصر إن هم صبروا واتقوا، وأمرهم بالطاعة.[46]

وهناك أمثلة كثيرة على مشاورة النبى صلى الله عليه وسلم لأصحابه فى أمور كثيرة يطول المقام بذكرها.

فصل فى

هل الشورى واجبة أم مستحبة؟

اختلف العلماء فى حكم الشورى بالنسبة للحكام من حيث الوجوب أو الندب إلى فريقين:

الأول:يرى أن الشورى واجبة واستدلوا بأدلة منها:

1-قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) } [الشورى: 38، 39]

   قال الجصاص بعد ذكر الآية وهذا يدُلُّ عَلَى جَلَالَةِ مَوْقِعِ الْمَشُورَةِ لِذِكْرِهِ لَهَا مَعَ الْإِيمَانِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّا مَأْمُورُونَ بِهَا.[47]

2- قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلَاةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَفِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَوُجُوهِ الْجَيْشِ فيما يتعلق بالحرب، وجوه والناس فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَوُجُوهِ الْكُتَّابِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْعُمَّالِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْبِلَادِ وَعِمَارَتِهَا.[48]

3- قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالشُّورَى مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَعَزَائِمِ الْأَحْكَامِ، مَنْ لَا يَسْتَشِيرُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فَعَزْلُهُ وَاجِبٌ. هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ.[49]

4- قال الرازى  بعدما ذكر مذاهب العلماء:{وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ عَقْلًا وَذَكَاءً، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِالِاجْتِهَادِ إِذَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَالِاجْتِهَادُ يَتَقَوَّى بِالْمُنَاظَرَةِ وَالْمُبَاحَثَةِ فَلِهَذَا كَانَ مَأْمُورًا بِالْمُشَاوَرَةِ.}[50]

5- هناك أحاديث وردت في الشورى إلا أنها تدور بين الضعف والضعف الشديد والوضع وقد يطول المقام بذكرها لكن انظر كتاب(الشورى وأثرها في الديمقراطية-دراسة مقارنة-د/عبدالحميد اسماعيل الأنصارى) فقد فصل الكلام في أدلة القائلين بالوجوب ومناقشتها. من ص52-97من هذا الكتاب

6-المتأمل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته يجد أن الشورى كانت من المبادئ الأساسية في حياته وأنه طبقها في كل أمور الحياة سواء السياسية أو العسكرية أو الاجتماعية وقد سبق الإشارة إلى أمثلة على ذلك انظر المصدر السابق.

أدلة القائلين بالإباحة

استدل الفريق القائل بأن الشورى مباحة بأدلة منها:

1-أن الفقهاء لما تكلموا عن الشورى لم يدرجوها في الأمور الواجبة وإنما تكلموا عنها في مبحث آداب القاضي كما فعل الماوردي وغيره ممن صنف في الأحكام السلطانية.

2-البراءة الأصلية أى أن الأصل في الأشياء الإباحة وأنه لا دليل صريح على الوجوب.

3- أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الشورى في بعض الأمور وكذلك الخلفاء من بعده.

وقد نقل القول بالإباحة جماعة من العلماء منهم:

أ-ابن حزم في مختصر إبطال القياس.

ب- وابن القيم في أعلام الموقعين.

ج- والسرخسي في المبسوط.

د- وهو مذهب الشافعي كما في الأم،وغيرهم من الأئمة  (انظر كتاب الخليفة –توليته وعزله –للدكتور صلاح الدين دبوس- دراسة مقارنة).

والراجح أن القول بالوجوب أقوى من جهة الدليل والسنة العملية والله أعلم.

لكن هناك سؤال مهم وهو- هل للحاكم أو القاضي أن يأخذ برأى أهل الشورى أم يمضي رأيه هو حتى وإن خالف رأى أهل الشورى؟

الجواب:- أن المسألة على ثلاثة أقوال :

ا- قول بأن الشورى ملزمة للحاكم ولا يجوز أن يعدل عن رأيهم – وهذا قول جمهور المعاصرين.

2- وقول بأن الشورى غير ملزمة للحاكم  ويجوز أن يعدل عن رأى أهل الشورى – وهذا قول جمهور العلماء وفقهاء السلف وبعض المعصرين.

3- وقول توسط فجعل الأمر يرجع إلى الأمة إن شاءت الزمت الحاكم وإن شاءت تركت الأمر له – وهذا قول بعض المعاصرين.[51]

يقول د/عبد الحميد متولي{الواقع أن مسألة التزام الحاكم برأي أهل الشورى أو عدم التزامه برأيهم من المسائل التفصيلية التي تختلف باختلاف مدى تطور الشعب ومدى ممارسته الديمقراطية والحرية ، لذلك كان مما قضت به الحكمة ألا تتعرض الشريعة لأمثال تلك التفصيلات التي لا تعرف بطبيعتها الثبات والاستقرار}.[52]

وقد استدل كل فريق بعدد من الأدلة التي سبق الإشارة إليها والذي يترجح من خلال النظر في أدلة كل فريق أن القول بأن الشورى ملزمة للحاكم  هو الأقرب إلى الصواب من جهة الدليل النقلي والعقلي والله أعلم.

 ولمزيد بيان انظر {الشورى وأثرها في الديمقراطية-دراسة مقارنة-د/عبدالحميد اسماعيل الأنصارى ص 113- 222.}

{والشورى فريضة إسلامية- للصلابي- ص 142.- والشورى في الشريعة الإسلامية للقاضي ص 224.}

فصل في

 من هم أهل الشورى وما هى أوصافهم وكيف يتم اختيارهم؟

توارد عند الفقهاء وعلماء السياسة الشرعية مفهوم أهل الشورى أو أهل الاختيار أو أهل الحل والعقد وإن كانت الأخيرة أكثر تداولاً واستعمالا عندهم ولكن عند التدقيق نرى أن كل هذه المفاهيم تستعمل في وظيفة واحدة وهي الدعامة الأساسية لولاة الأمور.

ومن المعلوم أن أهل الشورى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والراشدين فيما بعد هم كبار الصحابة الذين كانوا يمثلون أقوامهم ويُحظون بثقتهم وهؤلاء كانوا يكونون مايشبه مجلساً للشورى , وقد شمل هذا المجلس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كبار السابقين الأولين من الذين امتحنوا وجُربوا فحازوا الثقة العامة.

أما المراد بأهل الشورى الآن، فهم من تجب استشارتهم، ويكونون مؤهلين بصفاتهم وشروطهم، أو معينين بأشخاصهم وأسمائهم، أي الذين يجب أن يستشيرهم المسؤولون وولاة الشؤون العامة وأبرز ما يتبادر إلى الذهن في هذا المقام هو ((مجلس الشورى)) الذي يكون بجانب رئيس الدولة وحكومته، أي ما يعرف في تراثنا الإسلامي بأهل الحل والعقد، ويدخل في هذا الباب كل الهيئات الشورية العليا، التي تحتاج إلى مستشارين كبار، وبغض النظر عن اختلاف الأسماء وتفاوت الصلاحيات لهذه المجالس من بلد لآخر، ومن مجلس، لآخر، فقد أصبحت هذه المجالس من المؤسسات الرئيسية القائمة في معظم دول العالم، وأيضاً قي معظم الدول الإسلامية.[53]

وقد حرص العلماء والمحققون من الفقهاء والمفسرين استنباطاً من كتاب الله وسنة رسوله على بيان صفة المستشار

قال الحسن: ما كمل دين امرء ما لم يكمُل عقله فإذا استشير مَنْ هذه صفته واجتهد في الصلاح وبذل جهده فوقعت الإشارة خطأ فلا غرامة عليه.

وقال البخاري: كانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها

 وقال سفيان الثوري: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة

 وقال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون وفيما أشكل عليهم من أمور الدين ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ووجوه الكتَّاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها

 وقال ابن عطية: الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام, من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب وهذا مما لا خلاف فيه.

وقال الماوردى : اعلم أن من الحزم لكل ذي لب أن لا يبرم أمرا ولا يمضي عزما إلا بمشورة ذي الرأي الناصح، ومطالعة ذي العقل الراجح.

فإذا عزم على المشاورة ارتاد لها من أهلها من قد استكملت فيه خمس خصال:

 إحداهن: عقل كامل مع تجربة سالفة فإن بكثرة التجارب تصح الروية.

كان يقال: إياك ومشاورة رجلين: شاب معجب بنفسه قليل التجارب في غيره، أو كبير قد أخذ الدهر من عقله كما أخذ من جسمه.

 وقال بعض الحكماء: من استعان بذوي العقول فاز بدرك المأمول.

والخصلة الثانية: أن يكون ذا دين وتقى، فإن ذلك عماد كل صلاح وباب كل نجاح. ومن غلب عليه الدين فهو مأمون السريرة موفق العزيمة..

والخصلة الثالثة: أن يكون ناصحا ودودا، فإن النصح والمودة يصدقان الفكرة ويمحضان الرأي. وقال بعض الحكماء: لا تشاور إلا الحازم غير الحسود، واللبيب غير الحقود.

والخصلة الرابعة: أن يكون سليم الفكر من هم قاطع، وغم شاغل، فإن من عارضت فكره شوائب الهموم لا يسلم له رأي ولا يستقيم له خاطر.

والخصلة الخامسة: أن لا يكون له في الأمر المستشار غرض يتابعه، ولا هوى يساعده، فإن الأغراض جاذبة والهوى صاد، والرأي إذا عارضه الهوى وجاذبته الأغراض فسد.

فإذا استكملت هذه الخصال الخمس في رجل كان أهلا للمشورة ومعدنا للرأي.[54]

وقال الماوردي أيضا:

فَأَمَّا أَهْلُ الِاخْتِيَارِ فَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِيهِمْ ثَلَاثَةٌ:

أَحَدُهَا: الْعَدَالَةُ الْجَامِعَةُ لِشُرُوطِهَا.

وَالثَّانِي: الْعِلْمُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْإِمَامَةَ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا.

وَالثَّالِثُ: الرَّأْيُ وَالْحِكْمَةُ الْمُؤَدِّيَانِ إلَى اخْتِيَارِ مَنْ هُوَ لِلْإِمَامَةِ أَصْلَحُ، وَبِتَدْبِيرِ الْمَصَالِحِ أَقْوَمُ وَأَعْرَفُ، وَلَيْسَ لِمَنْ كَانَ فِي بَلَدِ الْإِمَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ فَضْلُ مَزِيَّةٍ تَقَدَّمَ بِهَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَنْ يَحْضُرُ بِبَلَدِ الْإِمَامِ مُتَوَلِّيًا لِعَقْدِ الْإِمَامَةِ عُرْفًا لَا شَرْعًا؛ لِسُبُوقِ عِلْمِهِمْ بِمَوْتِهِ، وَلِأَنَّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ فِي الْأَغْلَبِ مَوْجُودُونَ فِي بَلَدِهِ.[55]

وقد ذكر الدكتور عز الدين التميمي: صفات لأهل الشورى فقال: ينبغي أن يختار لأهل المشورة أناس يتحلون بخصال وأوصاف معينة حتى تؤتي أكلها وتعطي ثمارها نلخصها بإيجاز:

أولاً: مرتبة العقل الكامل والفطنة والذكاء مع طول التجربة.

ثانياً: الاستقلال في الرأي, فمن المفضل أن يكون المستشار من ذوي الاستقلال في الرأي.

ثالثاً: الشجاعة في إبداء الرأي, فالشجاعة في إبداء الرأي والتصريح به من الأمور المهمة مستدلاً على ذلك بما جاء في حديث عبادة بن الصامت الذي يقول فيه (بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان وعلى أن نقول الحق أينما كان لا نخاف في الله لومة لائم).

رابعاً: الدين والاستقامة قال وهذه من الصفات الرئيسية في المستشار لئلا يغش فيما يستنصح فيه.[56]

أما عن طريقة اختيارهم فقد ذكر العلماء أنه لا مناص من قيام الأمة بانتخاب من يمثلونها وينوبون عنها في مباشرة هذا الانتخاب , ومن تنتخبهم الأمة لهذه المهمة يمكن أن يوصفوا بأنهم أهل الحل والعقد لمشايعة الأمة لهم ومتابعتها لهم ورضاها بنيابتهم وعلى الدولة أن تضع النظام اللازم لإجراء هذا الانتخاب وضمان سلامته وأن تعين في هذا النظام الشروط الواجب توفرها - في ضوء ماذكره الفقهاء - في من تنتخبهم الأمة لتكوين جماعة أهل الحل والعقد ومثل هذا الانتخاب ضرورى ولازم لإيجاد أهل الحل والعقد وإثبات وكالتهم عن الأمة بالتوكيل الصريح , لأن التوكيل الضمني يتعذر حصوله في الوقت الحاضر لكثرة أفراد الأمة ولأن إجازة مثل هذا التوكيل الضمني يفتح باباً خطراً على الأمة ويؤذن بفوضى وشر مستطير , إذ يستطيع كل عاطل عن شروط أهل الحل والعقد أن يجعل نفسه منهم وينصب نفسه ممثلاً عن الأمة بحجة أنها ترضى بنيابته عنها ضمناً وهذا مالا تجوزه الشريعة ولا يستسيغه عقل.

ولضمان سلامة انتخاب مجلس الشورى , انتخاب الأكفاء المخلصين لعضويته لا يكفي وضع نظام لهذا الانتخاب , بل لابد من إشاعة المفاهيم الإسلامية , ورفع المستوى الأخلاقي في الأمة , وتربية الأفراد على مخافة الله وتقواه حتى لا ينتخبوا إلا الأصلح وليقوم من تنتخبه الأمة بواجبه كما يأمر الإسلام.[57]

طريقة اختيار أهل الشورى

1- طريقة الانتخاب المباشر. وهذه الطريقة هي الأكثر اعتمادأ في السيرة النبوية وفي سيرة الخلفاء الراشدين.ويرى أنصار هذا الرأي أن حكم الشورى يقتضي أن يشترك الشعب جميعا في عملية إنابة أهل الشورى ، غير أن وسيلة إجراء هذه العملية متروكة  لاجتهاد كل جيل ، حيث أنه لم يرد في شأن هذه الوسيلة نص قرآني أو نبوي ، لكن المهم أن يأتي مجلس الشورى عن طريق الانتخاب من قبل عامة الشعب.

ويضيف أصحاب هذا الرأى أن المجتمعات المعقدة كمجتمعنا لا يمكن أن تعرف رأى الأمة فيه وتحقيق مبدأ الشورى بغير طريق الانتخاب العام إذ أنها الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تظهر عن طريقها مزايا المرشحين.

2- طريقة التدرج الإجتماعي:وخلاصة هذا الرأى أن الأفراد يتدرجون في المجتمع بحسب الصفات التي تؤهلهم للرقى المناسب للمجتمع ، وهذه الصفات تختلف حسب المبادئ التي تسود في المجتمع، ففي المجتمع الرأسمالي  يتدرج الأفراد حسب قدراتهم في جمع المال وتحصيل الثروة،

كذلك المجتمعات المذهبية التي يتغلب فيها مذهب على آخر يتدرج أفرادها بحسب قوة مذهبهم.

3- اختيار أهل الشورى عن طريق التعيين:يقول د/محمد رأفت عثمان {إن تشكيل مجالس للشورى بطريقة الإنتخابات مسألة غير مأمونة لما في هذه الوسيلة من عيوب، والرأى الذى نراه أن يختار رئيس الدولة أعضاء مجلس الشورى بناءاً على استفاضة شهرتهم وعدالتهم  وفضلهم وتقدمهم على من سواهم في كثير من مناحي الحياة.[58]

4- نظام الاختيار قبل الإنتخاب:وهو حصر صفات الاجتهاد في حملة شهادات معينة في أى مجال من مجالات العلم كالطب والهندسة والزراعة  والاقتصاد والشريعة وغيرها.

فصل في صلاحيات المجالس التشريعية ووظائفها وطبيعة عملها

للمجالس التشريعية (البرلمان) في الأنظمة القانونية الحديثة ثلاث وظائف رئيسية:

1 - الوظيفة التشريعية: المراد بها سن القوانين التي تحتاج إليها الدولة حيث تقوم السلطة التنفيذية باقتراح مشروع قانون ما، ثم تقدمه إلى البرلمان، الذي يحيله بدوره إلى لجانه المتخصصة لدراسته، وبعدها يعرض على الهيئة التشريعية مجتمعة لمناقشته، وفي حال إقراره ثم إصداره بقانون يوضع موضع التنفيذ بعد نشره في الجريدة الرسمية وسنأتي قريباً على بيان كيفية سن القوانين وما هي القوانين التي يجب أن يناط استنباطها بهذه المجالس سواءً كانت اقتصادية أم اجتماعية أم غير ذلك.

2 - الوظيفة السياسية: وهي من أهم وظائف الهيئة التشريعية وتتمثل باختيار الحاكم أو تزكية من يترشح, ومنح الثقة للسلطة التنفيذية أو حجبها عنها، ثم مراقبة أعمال هذه السلطة، والتحقق من مدى تنفيذها للقوانين الصادرة عنها، ومسائلة الوزراء عن أعمالهم وتصرفاتهم في مجال وزاراتهم.

3 - الوظيفة المالية: وتتمثل في إقرار الميزانية العامة للدولة ومناقشتها قبل إقرارها، ثم الإشراف على إنفاقها وصرفها, وتشترط بعض الدساتير في بعض الدول موافقة الهيئة التشريعية على القروض العامة والارتباطات المالية التي تربط بها الدولة, هذا ومضمون هذه الوظيفة يرجع في الحقيقة إلى كل من الوظيفة التشريعية والوظيفة السياسية، ذلك إن إصدار الموازنة العامة للدولة يكون بقانون وهذا تشريع، والإشراف على إنفاق هذه الموازنة يعد رقابة وهذه وظيفة سياسية.

إذاً فوظيفة وصلاحيات البرلمان أو ما يمكن تسميته بمجلس الشورى يمكن ردها إلى أمرين رئيسين هما:

الأول: إصدار التشريعات في الدولة.

والثاني: مراقبة السلطة التنفيذية ومحاسبتها على أعمالها.

والثالث هو اختيار رئيس الدولة بطريق الانتخاب غير المباشر أو تزكيته ثم انتخابه من قبل الشعب بطريق الانتخاب المباشر. .[59]

أيضا من صلاحيات الشورى:

- الرقابة على شرعية النظم والأحكام ودستورية القوانين وشرعيتها وهي مهمة العلماء وأهل الاختصاص.

- المحاسبة وأداء واجب النصيحة وفقاً للمشروعية وممارسة حق الرقابة.

- إظهار عدم الرضا عن المعاونين والولاة.

- حق حصر المرشحين للرئاسة وغيرها من المناصب.

وأما وظائف الشورى:

كما يستفاد من العرض السابق كله فإن للشورى وظائف أساسية نستطيع إجمالها فيما يلي:

- اختيار من يلي أمور البلاد والعباد ولاية ((الرئاسة)) ومن يقوم مقامه في مستويات أدنى.

- اختيار مجلس التشريع والرقابة العامة على كل المستويات ((المستوى الوطني , والمستوى المحلي)).

- إقرار أو تعديل عقد الحكم العام ((الدستور)).

- التوصل إلى قرار في القضايا المصيرية للبلاد وهذه الأمور الأربعة تفرض للشورى العامة.

- الوصول إلى قرار داخل جميع الأجهزة .

فصل في فوائد الشورى

قال ابن الجوزى:

ومن فوائد المشاورة أن المشاور إذا لم ينجح أمره، علم أن امتناع النجاح محض قدر، فلم يلم نفسه، ومنها أنه قد يعزم على أمر، فيبين له الصواب في قول غيره، فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح. قال علي عليه السلام: الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم. وقال بعض الحكماء: ما استُنْبِطَ الصواب بمثل المشاورة، ولا حُصِّنتِ النعم بمثل المواساة، ولا اكتسب البغضاء بمثل الكبر. واعلم أنه إنما أُمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمشاورة أصحابه فيما لم يأته فيه وحي، وعمهم بالذكر، والمقصود أرباب الفضل والتجارِب منهم.

 وللشورى فوائد جمة منها:

(1) إنها تبين مقادير العقول والأفهام، ومقدار الحب والإخلاص للمصالح العامة.

(2) إن عقول الناس متفاوتة وأفكارهم مختلفة، فربما ظهر لبعضهم من صالح الآراء ما لا يظهر لغيره وإن كان عظيما.

(3) إن الآراء فيها تقلّب على وجوهها، ويختار الرأى الصائب من بينها.

(4) إنه يظهر فيها اجتماع القلوب على إنجاح المسعى الواحد، واتفاق القلوب على ذلك مما يعين على حصول المطلوب، ومن ثم شرعت الاجتماعات فى الصلوات، وكانت صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة

(5) - إصابة الحق في الغالب, فإن الآراء إذا عرضت بحرية تامة وأدلى كلٌّ بحجته, وكانت النية صحيحة والهدف هو الوصول إلى الحق, وقدمت المصلحة العامة, وتجرد المتشاورون عن الأهواء والدوافع السيئة مع التوكل على الله تعالى فلا أشك أن النتائج تكون سليمة والعواقب حميدة والتسديد والتوفيق يتنزل من الله تعالى, وهذا واضح فيما وقع في عهد الصحابة رضوان الله عليهم.

(6)- أن العمل بالشورى قربة وطاعة لله عز وجل, ففيه اجتماع الرأي في تحصيل الخير, وتهذيب رأي صاحب الأمر مع الامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى, ومما ورد في شأن ذلك ما قاله: بشار بن برد:

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن

بحزم نصيح أو نصيحة حازم

(7) ـ من أعظم فوائد الشورى تلاقح الأفكار, وتكامل الثقة, وتبادل الخبرة والاطلاع على ما عند الآخرين, والاستفادة من الخبرات المتنوعة وبعبارة أخرى حصول التكامل بين أفراد المجتمع.

(8) - الشورى تعطي قوة للمجتمع في أكثر من مجال إنساني فعلى سبيل المجال النفسي, فأن الشورى طريق للتخلص من الظواهر المرضية غير الصحية, مثل قلة الإخلاص وضعف الأداء الوظيفي, وإهدار الطاقات المفيدة.

يقول الشعبي: الرجال ثلاثة, فرجل ونصف رجل ولاشيء فأما الرجل التام, فالذي له رأي وهو يستشير, وأما نصف الرجل, فالذي ليس له رأي , وهو يستشير وأما الذي لا شيء، فالذي ليس له رأي، ولا يستشير.

(9)- الشورى تشعر المشاركين بالمسؤولية وأنهم مع المسؤول يسعون إلى تحقيق المصالح العامة, ودرء المفاسد في عملية تكاملية.

(10)- الشورى تولد الثقة بين الحاكم والمحكوم وتطيب القلوب, وتجعل من رأي الخليفة أو الحاكم رأى جميع المسلمين بعد التشاور.

فصل في أوجه الخلاف بين الشورى والديمقراطية

أ - أن الديمقراطية غالباَ ما كانت تمارس في أنظمة سياسية لادينية , لاسيما في الغرب , لأن الاعتقاد كان سائداَ أن الحكم الديني ينتج طبقة كهنوتية ويجعل الحاكم مقدساَ , وبالتالي حصر العلاقة ويصادر الرأي المخالف , ويتم إصدار أحكام الكفر والزندقة ضد المعارضين , كما حدث في أزمة الكنيسة والعلم في أوروبا.

في حين أن الشورى تنبع عن مجتمع يؤمن بأن الإسلام لا يحكم بعيداَ عن معاني الإيمان المرتبطة بالحياة بكافة أشكالها وصورها ويجعل الدين منهاجاَ للحياة , ولا يحصر العبادة في طائفة أو فرقة وإن كانت حاكمة أو عالمة.

ب - إذا تم حصر أهداف الديمقراطية في القضايا المادية البحتة , أوعزلها بالسياسة والحكم , فهذا تجميد لمعناها وقدرتها على الانسجام مع تطور المجتمعات , في حين أن الشورى تسعى الى بحث كل المسائل والقضايا ذات صلة المادية أو الروحية , فالشورى تبدأ من النطاق الأسري الصغير إلى دائرة القبيلة والعشيرة والمجتمع والدولة , وبالتالي تتحقق المشاركة الشعبية فضلاَ عن مشاركة النخب السياسية في إدارة الدولة والحكم.

ج - أن مفهوم الأمة لايتحدد في الإسلام بجنس أو عرق أو أرض , بل بمفهوم الأمة الأوسع وبالتالي روح العقيدة الإسلامية ومفهوم الوحدة بين المسلمين هي الأصل , في ظل وجود مفارقات سياسية , في حين أن النظام الديمقراطي يحدد ذلك في قطر معين , مع وجود المشاحنات والتنافر بين أبناء القطر الواحد.

في النظام الديمقراطي يكون الشعب هو مصدر التشريع وبالتحديد في إيكال أمر التمثيل إلى فئة تمثلهم في البرلمان أو المجلس النيابي , علما ان أرادة الشعب تتمثل غالباَ في الأغلبية أو الأكثرية , كما أن النظام النيابي أو البرلماني الديمقراطي يعوزه نوع من الدقة في مسألة التمثيل النسبي وهو أن ينال كل حزب سياسي نصيباَ من مقاعد الهيئة التشريعية , يتناسب مع ماناله من مجمل الأصوات التي أدلي بها في الانتخابات وهو يتيح أيضاَ فرصاَ لمرشحي أحزاب الأقلية في الانتخابات للحصول على مقاعد فى المجلس , إلى ضبابية البرامج الانتخابية والدعائية , أي أن الذين يمثلون الشعب ليس بالتأكيد هم الشرعية وإن كانوا حاصلين على تفويض بناءَ على إجراءات النظام البرلماني.

في حين أن في نظام الشورى يكون التشريع فيه لله , عز وجل وحده والحاكمية له سبحانه، وحتى في المسائل الاجتهادية أو الخلافية، الأصل أن لاتخرج عن مقررات الشريعة وهذا مايوازيه في النظام الديمقراطي السيادة في الفكر الغربي , بيد أن سلطة الشعب في ظل النظام الإسلامي ليس مطلقة , بل هي مقيدة بمقرارات الشريعة وأحكامها أو بصورة أوضح , أن الديمقراطية تتجاهل المبادئ العليا والشرائع السماوية , بل قد تكون في بعض الأحيان في حال رفض وازدراء لكل المعتقدات السماوية.

د- أن الشورى مرتبطة بالنظام الإسلامي الذي يجمع مابين الأخلاق والتشريع والعمل السياسي الإسلامي، لا يخرج عن إطار العمل الأخلاقي، لأن الغاية من هذا النظام هو العمل على كسب الدنيا والآخرة معاَ، من خلال تحقيق مصالح الأفراد والدولة بصورة فيها صلاح وعمران لمفهوم الاستخلاف في الأرض.

في حين أن الديمقراطية تخضع غالباَ في الفكر الغربي إلى تحصيل المنافع والقيم النسبية , حسب رأي الأغلبية , لاسيما إذا كانت الأغلبية مطلقة وعليه قد تقع الحيل والمخادعات وسياسات مكيا فيللي،" الغاية تبرر الوسيلة"، مما يوقع الفساد الأخلاقي والإصلاحي بإسم الديمقراطية.

سيما إذا كان الدستور والقيم تنحصر في هذه الأغلبية , فمن الممكن أن تنحصر القيم التي تحكم الإجراءات الديمقراطية , وأن يقرر الناخبون القانون والقيمة , بدون أي مرجعية أخلاقية أو معرفية , كما فعل هتلر بعد حصوله على الأغلبية من خلال العملية الديمقراطية فقام بتصفية الأقليات العرقية والدينية بموافقة الأغلبية الألمانية , وهذا النوع من الديمقراطية هو الممارس في الغرب، إذ بهذا النظام القائم على تحصيل المنفعة واللذة يمكن إجازة الزواج المثلي، أو السحاق أو الإجهاض، وغير ذلك من الأفعال المخالفة للقيم الإنسانية بحجج تحصيل الأغلبية من النواب , إذ يكون بعضهم مرشحاَ من قبل هذه الجمعيات الشاذة أخلاقيا وهذا مايجعلنا نؤكد على أن الأنظمة الغربية تقوم على منظومة قيم تختلف جذريا عن تلك القائمة عند المسلمين وليس المشكلة في النظام السياسي فقط , بل إجراءات تحصيل المصلحة للشعوب وهذا يعود بالأساس إلى فلسفة القيم والخلق

إن قيمة الشورى كمفهوم شرعي لها من الدلالات والمعاني الإيمانية ما هو أشمل وأوسع استخداماً واستعمالاً من المقيدات والمحددات في العملية الديمقراطية, إذ أن المواطن في الدولة الإسلامية يستشعر مدى المسؤولية الشرعية أمام الله في إنكار المنكر, وفي حمل الغير على ذلك, أي أن المسؤولية الشرعية أقوى من المسؤولية القانونية في النظام الديمقراطي ، عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: إن أول مادخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل, فيقول ياهذا اتق الله ودع ماتصنع, فإنه لا يحل لك, ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده, فلما فعلوا ذلك, ضرب الله قلوب بعضهم ببعض, ثم قال " لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ "[60] ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر, ولتأخذن على يدي الظالم, ولتأطرنه على الحق أطرا, ولتقصرنه على الحق قصراً. بل أجمع الفقهاء على وجوب طاعة الأئمة والولاة في غير معصية, وعلى تحريمها من المعصية.[61]

أيضا سلطات مجلس الشورى مقيدة بعدم الخروج على النص القرآني أو النبوي.

أما سلطات مجلس الشورى في النظام الديمقراطي فهى مطلقة أو مقيدة بالدستور الحاكم .

الشورى الإسلامية مرتبطة بقيم أخلاقية نابعة من الدين . 

بينما الديمقراطية المعاصرة لاتستند إلى مثل هذه القيم.[62]

الشورى كلمة عربية قرآنية جاء ذكرها والأمر بها في القرآن الكريم في أكثر من موضع، بينما الديمقراطية كلمة غربية، خبيثة المنبت والمنشأ، لا قرار لها ولا أصل ولا وجود لها في اللغة العربية، ولا في دين الله تعالى .

الشورى حكم الله تعالى، بينما الديمقراطية هي حكم الشعب، وحكم الطاغوت ..

الشورى تقرر أن السيادة والحاكمية لله تعالى وحده، بينما الديمقراطية تقرر أن السيادة والحاكمية للشعب، وما يختاره الشعب

الشورى تكون في مواضع الاجتهاد؛ فيما لا نص فيه،بينما الديمقراطية تخوض في كل شيء، وتحكم على كل شيء بما في ذلك النصوص الشرعية ذاتها، حيث لا يوجد في نظر الديمقراطية شيء مقدس لا يمكن الخوض فيه، وإخضاعه لعملية التصويت والاختيار.

تخضع الشورى لأهل الحل والعقد، وأهل الاختصاص والاجتهاد، بينما الديمقراطية تخضع لجميع طبقات وأصناف الناس؛ الكافر منهم والمؤمن، والجاهل منهم والعالم، والطالح والصالح فلا فرق، وكلهم لهم نفس الأثر على الحكم والقرار ..!

تهتم الشورى بالنوع والرأي الأقرب إلى الحق والصواب وإن خالف ذلك الأكثرية وما عليه الجماهير، بينما الديمقراطية تهتم بالكم والغثاء، وهي تدور مع الأكثرية حيث دارت، ولو كانت النتيجة مخالفة للحق موافقة للباطل ..!

ينبثق عن الشورى مجلس استشاري وظيفته استخراج أقرب الآراء إلى الحق وفق ضوابط وقواعد الشرع، بينما الديمقراطية ينبثق عنها مجالس تشريعية، لها صلاحيات التحليل والتحريم، وسن القوانين والتشريعات بغير سلطان من الله تعالى ..

الشورى من دين الله تعالى، الإيمان بها واجب وجحودها كفر ومروق، بينما الديمقراطية دين الطاغوت، الإيمان به كفر والكفر به إيمان ..

…قال تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} البقرة:256.

الشورى - على القول الراجح - واجبة غير ملزمة، بينما الديمقراطية فإن الآراء التي تؤخذ عن طريقها - مهما كان نوعها وقربها أو بعدها عن الحق - فإنها ملزمة وواجبة ونافذة.[63]

وهناك بعض الباحثين أورد بعض أوجه الاتفاق بين الشورى والديمقراطية نوردها من باب الإنصاف:

أـ أن المساواة وحرية الفكر والعقيدة والعدالة الاجتماعية في الشورى والديمقراطية لا تنحصر بالنظام السياسي والحكم, بقدر ماتؤكد على البعد الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد لاسيما وأن: يعيش الشعب في ظل كيان إنساني متعاون, وفي إطار من راحة العيش والتكافل الاجتماعي من خلال فرض الزكاة والصدقات فرض الخراج على الأغنياء إذا احتاجت الدولة للمال من أجل الدفاع عن البلاد وكفاية الفقراء والمحتاجين والمساكين, كما قال تعالى:" وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ "[64]

وقضية العدالة بصورة عامة تدخل في كل شؤون الدين وتفاصيله, كما يقول ابن عبد السلام: العدالة شرط في معظم الولايات, لتكون وازعة عن الخيانة والتقصير وينطبق هذا أيضاً على الحرية الاقتصادية كما روى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: دعوا الناس يرزق  الله بعضهم من بعض, فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه وقد أكد الدكتور وهبة الزحيلي: أن الديمقراطية الاجتماعية في الإسلام كانت أبعد مدى بكثير في حياة المسلمين الأوائل منها في الديمقراطيات الحديثة, كما كانت الديمقراطية السياسية في الإسلام أكثر عناية وتحقيقاً لأهداف الديمقراطية منها بأساليب وشكليات تلك الديمقراطية

فهما يتفقان على تمكن الفرد من المشاركة في القرارات المصيرية التي تهمه, وتهم المجتمع كله, كما أن الفرد يحصل على نصيب عادل من ثروة بلاده.

ب- أن الأمة أو الشعب هي التي تختار ممثليها أو حكامها فالشورى والديمقراطية تدعوان لتوسيع مشاركة الناس في مجال العمل السياسي, أو بصورة أخرى بناء الأمة سياسياً ويعد هذا واجباً وطنياً, وهناك اتفاق على رفض أي نوع من الاستبداد والانفراد بالرأي.

لعل في تنبيهات الصديق ((رضي الله عنه)) عند تسلمه الحكم ما يشير إلى أس الديمقراطية والشورى, عندما قال: أيها الناس: إني وُليت عليكم ولست بخيركم, إن أحسنت فأعينوني, وإن أسأت فقوموني, أطيعوني ما أطلعت الله ورسوله, فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم.

هذا المفهوم الأصيل الذي ذكره الصديق يوضح مدى غرابة وبشاعة الاستبداد والمستبدين عن واقع المنهج الرباني, بل كان من أهداف بعث الأنبياء والرسل محاربة الاستبداد في واقع الأقوام والجماعات سواء أكانت على نطاق الأفراد فرعون نمرود قارون .. أو على نطاق الجماعات. قوم نوح, قوم هود, مشركي قريش, هذا الاستبداد لون واحد ولكنه بشكل متعدد.

وعلى توصيف الكواكبي ت 1320هـ أن ((المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم, ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي, فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق, والتداعي بمطالبته  , فالمستبد لا يمكن أن يكون رجل دولة, ورجل سياسة , فقط رجل لتلبية الملذات التي تعتريه.

ج- عدم جواز مخالفة مصالح الأمة التي تعقد في الشورى أو الديمقراطية, لأن هذه المصالح تصدر عن طريق الموافقة الجماعية وليس عن طريق الأهواء أو الانفراد بالرأي.

وهناك مقاربة فيما يسمى في الأنظمة الديمقراطية بحكم الأغلبية, أي أكثر من نصف الأصوات التي أدلى بها, وبها يتم انتخاب الهيئات التشريعية بطريقة التمثيل النسبي حيث يعطى التمثيل النسبي الحزب السياسي نسبة مئوية من مقاعد الهيئة التشريعية, تتناسب مع نصبيه من جملة الأصوات التي أدلى بها في الانتخابات, أي أن النظام يوجب أن توافق الأغلبية على القرار البرلماني حتى يعتمد, ويصبح القرار نافذ المفعول.

في حين أن مبدأ الأغلبية أو الأكثرية معمول به , لو تجاوزنا بعض الملاحظات على استعمال مصطلح الأغلبية في نظام الديمقراطية , وإن كان أمر الأقلية معتبراً.

ولقد اعتمد فقهاء السياسة الشريعة هذا المبدأ, وهو العمل بالأكثرية ومصطلح الأكثرية أو الكثرة معمول به في مباحث التعارض والترجيح ومن ذلك قول الآمدي 631هـ: إن الكثرة يحصل بها الترجيح  , ثم انتقل للعمل به في مسالك الحكم والسياسة , كما يرى ذلك العلماء منهم الغزالي 505هـ وابن تميمة 728هـ وعلى لسان الماوردى 450هـ قوله: ويكون أهل المسجد أحق بالاختيار, وإذا اختلف أهل المسجد في اختيار إمام عمل على قول الأكثرين

وكذلك يُعمل به في مبدأ الشورى, كما يرى ذلك الأستاذ عبد القادر عودة 1383هـ والواقع أن الشورى لن يكون لها معنى إذا لم يؤخذ برأي الأكثرية , ووجوب الشورى على الأمة يقضي التزام رأي الأكثرية.

والملاحظة لأقوال الفقهاء واختلافهم أن استعمالهم عبارة ما ذهب إليه الجمهور وهم يعنون به: الأكثرية من الفقهاء سواء تعلق الأمر بالفقه أو السياسة.

والمشكلة التي يلتفت إليها هنا, هو اعتبار الأغلبية فوق القانون, كما كان يحكم الفلاسفة وأن غالبية الشعب هي الحاكمة لا القانون  , فهنا لا نستطيع أن نجعل هذا وجه اتفاق لكن وجه اختلاف أساسي مابين الديمقراطية والشورى, بيد أن تعويلاً على أن الأغلبية الواقعة هنا أغلبية اجتهادية في المصالح العامة، لا أغلبية في أحكام التشريع والقانون.

أن عضوية المجلس النيابة تقارب عضوية مجالس الشورى في العديد من الأشكال والصور، فالعضوية تشترط أن يكون العضو قد بلغ سناً معينة, وأن لا يكون أقترف جرماً يخل بالشرف, وأن يكون حسن السيرة والسلوك, في حين أن المجالس الشورية تشترط ما هو أقرب إلى هذا, وأحكم بالشرع , حيث تشترط أن يكون العضو ملتزماً بدين وأخلاق الإسلام, ذوي خبرة وممارسة وحنكة وأن يكون أهلاً للمسؤولية.

أيضا من أوجه الاتفاق:

ترى الديمقراطية المعاصرة وجوب مناقشة المجلس النيابي للمسائل العامة والتشريعية بحيث يترتب على المخالفة عدم المشروعية والمساءلة.

2- مبدأ الأغلبية وحق المعارضة ركنان أساسيان في الديمقراطية المعاصرة.

                                                                                         انتهى والله تعالى أعلى وأعلم.



[1] - معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 485).

[2] -المغرب في ترتيب المعرب (ص: 258).

[3]-  المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 326).

[4]-  دستور العلماء = جامع العلوم في اصطلاحات الفنون (2/ 16).

[5]-  المعجم الوسيط (1/ 499).

[6]-  تاج العروس (12/ 257).

[7] - الفصول في الأصول (4/ 55)

[8] - الشورى في الشريعة الإسلامية (ص: 28)

[9] - د. محمد أبو فارس: النظام السياسي في الإسلام 79.

[10] - الشيخ أحمد محيي الدين العجوز: مناهج الشريعة الإسلامية 2/ 128 مكتبة المعارف - بيروت 1401هـ 1981م.

[11]-  الشورى في الشريعة الإسلامية (ص: 28).

[12]- مقدمة (الشورى في الإسلام رؤية نيابية) للدكتور صالح بن حميد رئس مجلس الشورى السعودي وإمام وخطيب المسجد الحرام ص1.

[13] - د. هاني سليمان الطعيمات: حقوق الإنسان وحرياته الأساسية 225 الطبعة الأولى سنة 2001م- دار الشروق للنشر والتوزيع - بيروت.

[14]- الشورى فريضة إسلامية (ص: 132-للصلابي).

[15] - د. عدنان علي رضا النحوي: الشورى وممارستها الإيمانية

[16]-  (آل عمران 159).

[17]- تفسير مقاتل بن سليمان (1/ 310).

[18]- تفسير الإمام الشافعي (1/ 493).

[19] - تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (7/ 343)وما بعدها.

[20] - معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 483).

[21] - - تفسير ابن المنذر (2/ 468).

[22] - تفسير ابن أبي حاتم  محققا (3/ 802).

- [23] زاد المسير في علم التفسير (1/ 340).

[24]- تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (9/ 409).

[25] - تفسير المراغي (4/ 113).

[26] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 154).

-[27] التحرير والتنوير (4/ 147) لابن عاشور.

[28] -  تفسير القرطبي (4/ 249).

[29] - تفسير القرطبي (4/ 249).

[30] - تفسير القرطبي (4/ 250).

[31] - تفسير القرطبي (4/ 250).

[32] - تفسير القرطبي (4/ 252).

[33] - تفسير مقاتل بن سليمان (3/ 772).

[34]-  معاني القرآن وإعرابه للزجاج (4/ 401).

[35]-  تفسير السمرقندي = بحر العلوم (3/ 246).

[36]-  تفسير الثعلبي = الكشف والبيان عن تفسير القرآن (3/ 192).

[37] - تفسير الماوردي = النكت والعيون (5/ 206).

[38] - تفسير المنار (5/ 174).

[39] - تفسير المنار (7/ 118).

[40] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 760).

[41] - ضعيف أخرجه الترمذى فى سننه ( 4/ 529- رقم-2266)، والبزار فى مسنده (17/20- رقم 9529)، والحاكم فى المستدرك (4/100- رقم 7010) من طرق عن صالح المرى عن سعيد الجريرى عن أبى عثمان النهدى عن أبى هريرة رفعه ، وانظر السلسلة  الضعيفة للألبانى (14/1098- رقم 6999).

[42] - الشورى في الشريعة الإسلامية (ص: 36).

[43] - صحيح مسلم (3/ 1403)،وغيره.

[44] - صحيح مسلم (3/1383) وغيره.

[45]- المستدرك على الصحيحين للحاكم (2/ 141).

[46] - إمتاع الأسماع (1/ 225) للمقريزى.

[47] - أحكام القرآن للجصاص ط العلمية (3/ 510)

[48] - تفسير القرطبي (4/ 250).

[49] - تفسير القرطبي (4/ 249).

[50] - تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (9/ 410).

[51] - الشورى في ظل الحكم الإسلامي للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ص 97-98.

[52] - مبدأ الشورى في الإسلام ص 17.

[53] - الشورى فريضة إسلامية ص: 165للصلابي.

[54]- أدب الدنيا والدين (ص: 302)

[55] - الأحكام السلطانية للماوردي (ص: 18)

[56] - انظر الشورى بين الأصالة والمعاصرة ص 39 - 41 بتصرف،والشورى وأثرها في الديمقراطية من ص 225 إلى 250 مصدر سابق، والشورى فريضة إسلامية للصلابي، الشورى في الشريعة الإسلامية للقاضي حسين بن محمد المهدى ص إلى 201.

[57] - حقوق الأفراد في دار الإسلام عبد الكريم زيدان ص14.

[58] رياسة الدولة في الفقه الإسلامي- رسالة دكتوراه ص 361.

[59] - الشورى في الشريعة الإسلامية (ص: 62)

[60] - (المائدة, اية:78ـ 81).

[61]- الشورى فريضة إسلامية (ص: 193إلى 197)

[62] - انظر(الشورى وأثرها في الديمقراطية – مصدر سابق.- والشورى فريضة إسلامية للصلابي.)

[63]- موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة 1-29 (54/ 110)

[64] - (المائدة, آية: 2)

يسمح بنقل الموضوع  شرط ذكر المصدر


عدد المشاهدات 19881