خطبة: الأسواق أحكام وآداب (سلسلة الواعظ عدد ربيع الآخر 1437هـ)

2016-01-24

اللجنة العلمية

الأسـواق أحكـام وآداب

الأسـواق أحكـام وآداب

كمال الشريعة الإسلامية آداب السوق.

حال النبي -صلى الله عليه وسلم- مع السوق وأهله من منكرات الأسواق.

أولا: تعريف السوق: موضع تُجلب إليه الأمتعة والسِّلع للبيع والابتياع(1).

ثانيا: كمال الشريعة الإسلامية:

إن شريعة الإسلام نظّمت شؤون الحياة كلِّها، فما من شأن من شؤون حياة الإنسان إلا وللشريعة فيه التعليمات الطيّبة والتوجيهات القيّمة؛ لتحوّل المجتمع المسلم في كل ميادين حياته لأن يكون مجتمعًا مرتبطًا بدينه، ومن ذلكم شأن الأسواق، بيعا وشراءً، فإن شريعة الإسلام جاءت بالضوابط الشرعية والآداب المستحبّة والتوجيهات النافعة لمن يأتوا الأسواق، ومن يشتغلون فيها، ومن مِهْنتُهم البيع والشراء فيها لأن الأسواق من الأماكن البغيضة لله تعالي كما في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: ((أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا))(2)، (3).

و للعرب في جاهليّتهم أسواق كعُكَاظ ومِجَنّة وذي المَجَاز، فلما جاء الإسلام تحرّجوا هل يقيمون تلك الأسواق كما كانوا في الجاهلية؟ فأنزل الله: ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ)) [البقرة: 198]، أي بالتجارة في الحج وغيره.

ولقد أثنى الله على رجال لم تكن الأسواق صادّة لهم عن ذكر الله، ولا مُلْهِية لهم عن طاعته، بل هم يزاولون البيع والشراء، ويؤمون الأسواق ويقيمونها، ولكنها لا تلهي قلوبهم عن ذكر الله، ولا تشغلهم الأسواق عن طاعة الله: ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ)) [النور: 36، 37].

ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا ذات لَذَّات، ولا تجارة ومكاسب، مشغلة عنه وهذا يشمل كل تكسب يقصد به العوض فهؤلاء الرجال، وإن اتجروا، وباعوا، واشتروا، فإن ذلك، لا محذور فيه. لكنه لا تلهيهم تلك، بأن يقدموها ويؤثروها على ذكر اللَّه(4).

ثالثا: آداب الأسواق في الإسلام:

1- مداومة ذكر الله، لأن السوق غفلة ولهو، والمسلم يذكر الله ليكون ذكره لله مصاحبًا لــــه فـي أحــوالــه كلها: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ

وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [الجمعة: 10].

أي: اتركوا البيع، إذا نودي للصلاة، وامضوا إليها فإن ((ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ)) من اشتغالكم بالبيع، وتفويتكم الصلاة الفريضة، التي هي من آكد الفروض ((إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) أن ما عند الله خير وأبقى، وأن من آثر الدنيا على الدين، فقد خسر الخسارة الحقيقية(5).

فليكن ذكر الله مصاحبًا لنا حتى في البيع والشراء، ولا تكن الدنيا مُلْهية عن طاعة ربنا.

2- إفشاء السلام، كان عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- يأتي السوق، فقال له أحد أصحابه: وما شأنك والسوق، لا تقف على السلع ولا تَسُوم؟! قال: آتي لأسَلّم، وليُرَدّ السلامُ عليّ.

3- غضّ البصر عن الحرم، قال الله: ((قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)) [النور: 30].

يقول تعالى ذكره لنبيه -صلى الله عليه وسلم- ((قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ)) بالله وبك يا محمد ((يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)) يكفوا من نظرهم إلى ما يشتهون النظر إليه، مما قد نهاهم الله عن النظر إليه ((وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)) أن يراها من لا يحلّ له رؤيتها، بلبس ما يسترها عن أبصارهم ((ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ)) يقول فإن غضها من النظر عما لا يحلّ النظر إليه، وحفظ الفرج عن أن يظهر لأبصار الناظرين؛ أطهر لهم عند الله وأفضل ((إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)) إن الله ذو خبرة بما تصنعون أيها الناس فيما أمركم به من غض أبصاركم عما أمركم بالغضّ عنه، وحفظ فروجكم عن إظهارها لمن نهاكم عن إظهارها له(6).

والمرأة المسلمة، مأمورة بذلك أيضا، قال الله: ((وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)) [النور: 31]،

عن أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ المَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبه))(7).

4- أن تتقي المرأة المسلمة ربّها، فإن احتاجت النزول إلى السوق، فلتلزم الأدب والحِشْمة في ثيابها ومشيتها وحالها كله، ولتمتنع عن الطِّيب عند خروجها من بيتها كلية، ومتى انقضى الغرض المطلوب عادت المرأة إلى بيتها، قال الله: ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) [الأحزاب: 33]. أي لا تكثرن الخروج متجملات أو متطيبات، كعادة أهل الجاهلية الأولى، الذين لا علم عندهم ولا دين، فكل هذا دفع للشر وأسبابه(8).

وَعَنْ أبي موسي الْأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ))(9).

وسبب ذلك أَنَّهَا هَيَّجَتْ شَهْوَةَ الرِّجَالِ بِعِطْرِهَا وَحَمَلَتْهُمْ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهَا(10).

5- الرفق والسماحة بمن في السوق عامة وفي البيع والشراء خاصة، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى))(11).

فيه: الحضُ على السماحة وحسن المعاملة، واستعمال معالى الأخلاق ومكارمها، وترك المشاحة والرقة في البيع، وذلك سبب إلى وجود البركة فيه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يحض أمته إلا على ما فيه النفع لهم في الدنيا والآخرة(12).

6- الصدق والأمانة، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَ))(13).

7 - العدل وعدم التطفيف في الميزان، قال الله: ((وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)) [المطففين: 1 - 3].

وَيْلٌ كلمة عذاب، ووعيد وفسر الله المطففين بقوله: ((الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ)) يستوفونه كاملا من غير نقص ((وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ)) إذا أعطوا الناس حقهم الذي للناس عليهم بكيل أو وزن، ((يُخْسِرُونَ)) ينقصونهم ذلك، إما بمكيال وميزان ناقصين، أو بعدم ملء المكيال والميزان، أو نحو ذلك. فهذا سرقة لأموال الناس، وعدم إنصاف لهم منهم(14).

رابعا: حال النبي-صلى الله عليه وسلم-في السوق:

إن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- كان يأتي الأسواق للتكسّب والبيع، ويراقب أسواق المسلمين، ويوجههم وينصحهم، ولذا عابه المشركون، ورأوا ذلك نقصًا في حقّه، فبرَّأه الله بقوله: ((وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا)) [الفرقان: 7-8].

إذا رأى شيئا نبه عليه وعلم برفق ولين -صلى الله عليه وسلم-، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً فَقَالَ: ((مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي))(15).

ومن أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يكن بفاحش ولا متفحش ولا يرفع صوته عما ينبغي، فعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الجَدَلِيَّ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا، وَلاَ مُتَفَحِّشًا، وَلاَ صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ(16).

أخي البائع: اتق الله، وراقبه في أحوالك كلها، واعلم بأن المال نعمة ليتّق الجميع ربَّهم في أحوالهم كلها، وليراقب كلٌّ ربَّه في أحواله كلها، وليتّق الباعةُ ربهم فيلزموا الصدق والأمانة ويحافظوا علي أموالهم لأن المال أمانة ولقد ملكه الله إياه وهو أمانة عنده وتصرّفه في ماله لا يكون تصرفًا سليمًا إلا إذا كان وفق الشرع، فإن تصرّف في المال التصرّف السيئ كان وَبَالاً عليه. سيُسأل كلٌّ منا عن ماله: من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟ تسأل عن طريق الاكتساب: أهي طرق شرعية، أم طرق خبيثة؟ تسأل عن طرق الإنفاق: أأنفقت هذا المال فيما يرضي الله، أم أنفقته في معاصي الله؟ هل كان إنفاقك في أعمال صالحة تبقى لك بعد موتك، أو أنفقته في أعمال سوء، تتحمّل الأوزار والآثام يوم القيامة؟.

فعَنْ خَوْلَةَ الأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: ((إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ))(17).

وفي قوله: ((يتخوضون)) دليلٌ على أنهم يتصرفون تصرفا طائشا غير مبني على أصول شرعية، فيفسدون الأموال ببذلها فيما يضر، مثل من يبذل أمواله في الدخان، أو في المخدرات، أو في شرب الخمور، أو ما أشبه ذلك، وكذلك أيضا يتخوضون فيها بالسرقات، والغصب، وما أشبه ذلك، وكذلك يتخوضون فيها بالدعاوى الباطلة، كأن يدّعي ما ليس له وهو كاذب، وما أشبه ذلك فالمهم أن كل من يتصرف تصرفاً غير شرعي في المال- سواء ماله أو مال غيره- فإن له النار(18).

خامسا: أمور متعلقة بالبيع:

لكن قبل ذلك ينبغي أن يُعلم بأن كثيرا من أخلاق أهل الإيمان قد تلاشت عند كثيرين في أبواب البيع والشراء، فأصبحت تجد المسلمين في بيعهم وشرائهم على أسوأ حالة كثير من الناس اليوم تذهب بركة بيوعهم وشرائهم لأنهم أناس جشعون، إذا ذكر المال طار من ذهنه ذكر الجنة والنار، أصبحت لا تشعر بالصدق عند بيعك وشرائك، اسمع هذه القصة لترى العجب في الصدق والأمانة والإخلاص في تبايع أولئك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ((اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ: الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلاَمٌ، وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: أَنْكِحُوا الغُلاَمَ الجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا))(19).

انظر إلى حسن المعاملة، والأمانة من الطرفين، ماذا كانت النتيجة، لقد قرب ذلك البيع والشراء بينهما حتى أصبحا متصاهرين، وفي المقابل تأمل في العلاقة بين الباعة والمشترين في هذا العصر، منذ أول لحظة يطأ المشتري بقدمه المحل، والبائع يفكر كيف يضحك عليه، والمشتري يضع في حسابه أن هذا عدو له يريد نهب ماله، وعلى إثرها تكون طريقة المساومة بينهما، ثم إذا قُدر بينهما تبايع تنتهي العلاقة بعد أول خطوة يضعها المشتري خارج المحل.

ومن كبريات مشاكل أسواقنا: قلة فقه الناس بأحكام البيوع، ورحم الله ذلك الزمن الذي كان لا يبيع أحد في السوق إلاّ وهو متأهل في مسائل البيوع، عارف لأحكامه، وقد كان في بعض أمصار المسلمين يمر الفقهاء على أصحاب الدكاكين، ويسألونهم عن عويص المسائل والباعة يجيبون، والذي لا يجيب يعزل من السوق، ولا يُسمح له بالبيع، فماذا عساك أن تقول عن باعة هذا الزمان الذي لا أظن أنه سيجيب لو سألته عن أبسط مسائل الطهارة.

قال الله تعالى: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)) [النساء: 29].

عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ -رضي الله عنه- يَقُولُ: قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ))(20).

فالرضى شرط من شروط البيع وتمامه، فلا يجوز غصب إنسان على بيع أرضه أو مزرعته، ولو حصل هذا فالبيع غير صحيح ومثل ذلك لو علمت أن هذا البائع باع عليك حياءً وخجلاً، أُحرج منك، فباع عليك، فلا يجوز لك أن تشتري لأنه غير راضي.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ عَامَ الفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: ((إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ، وَالمَيْتَةِ وَالخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ)) فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ، فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: ((لاَ، هُوَ حَرَامٌ))، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ ذَلِكَ:((قَاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ)) (21).

أي مع انتفاع الناس بها فهي ميتة يحرم بيعها، ويستثنى من الميتة، السمك والجراد، فيجوز بيعها ولو ميتاً فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ: الْحُوتُ، وَالْجَرَادُ))(22).

وأن يكون البائع مالكا للسلعة التي سيبيعها، وفي قبضته وحوزته، أو في مستودعه، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رضي الله عنه- قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِينِى الرَّجُلُ فَيُرِيدُ مِنِّى الْبَيْعَ لَيْسَ عِنْدِى أَفَأَبْتَاعُهُ لَهُ مِنَ السُّوقِ؟ فَقَالَ: ((لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ ))(23).

وأن يكون البائع قادرا على تسليمه، لأن ما لا يقدر على تسليمه، لا يصح بيعه، كبيع الطير في الهواء، والبيع في مثل هذه الحالة من الغرر والجهالة، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الغرر، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ(24).

سادسا: من منكرات الأسواق:

1- الكذب في الكسب والمرابحة: عن أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلاَثَ مِرَارًا، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا

رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ))(25).

المنفق سلعته بالحلف الكاذب: الذي يحلف كذبا ليزيد ثمن السلعة يقول: والله لقد اشتريتها بعشرة، وقد اشتراها بأقل من ذلك(26).

2- إخفاء العيب الذي يعلمه في السلعة، ويجب على من عرف ذلك أن يخبر المشترى بكذبه، فإن سكت مراعاة للبائع، كان شريكا له في الخيانة، عن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، - أَوْ قَالَ: حَتَّى يَتَفَرَّقَا-، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا))(27).

3-الشروط الفاسدة، واستعمال الربا: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ))(28)

مثل بيع المحرم والملاهي والصور المجسمة

قال الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)) [النور: 19].

أي: الأمور الشنيعة المستقبحة المستعظمة، فيحبون أن تشتهر الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم موجع للقلب والبدن، وذلك لغشه لإخوانه المسلمين، ومحبة الشر لهم، وجراءته على أعراضهم، فإذا كان هذا الوعيد، لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة، واستحلاء ذلك بالقلب، فكيف بما هو أعظم من ذلك، من إظهاره، ونقله(29).

4- الأيمان الكاذبة في البيع والشراء بل أصل اليمين في البيع والشراء ينبغي تركه، هذا إن كان حقًا، فكيف إذا كان باطلا ًقال الله: ((إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) [آل عمران: 77].

5- النجش وهو: الزيادة في ثمن السلعة لا يريد شراءها لكنه يزيد لأمر آخر، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا))(30).

---

(1) معجم اللغة العربية المعاصرة (2/ 1138).

(2) أخرجه مسلم (288).

(3) قال القاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 647) يوضح لم كانت الأسواق كذلك: لأنها مخصوصة بطلب الدنيا، ومخادعة العباد، والإعراض عن ذكر الله، ومظانِّ الأيمان الفاجرة.

وقال المناوي في التنوير شرح الجامع الصغير (1/391): وحبه تعالى للبقاع وبغضه لها حبه لأهلها والساكنين بها، وبغضه لهم ولمن يلازمها.

وقال الملا علي القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/591): وهذا بطريق الأغلبية، وإلا فقد يقصد المسجد بقصد نحو الغِيبة، وقد يدخل السوق لطلب الحلال، ولذا قيل: كن ممن يكون في السوق وقلبه في المسجد لا بالعكس، والجمع بين القلب والقالب في المسجد أكمل. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (5/171).

(4) تفسير السعدي (ص: 569).

(5) تفسير السعدي (ص: 863)

(6) تفسير الطبري (19/154).

(7) أخرجه البخاري (6243).

(8) تفسير السعدي (ص: 664).

(9) أخرجه: النسائي (5126)، وحسنه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (4407).

(10) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 838).

(11) أخرجه: البخاري (2076).

(12) شرح صحيح البخارى لابن بطال (6/ 210)

(13) أخرجه مسلم (3853)

(14) تفسير السعدي (ص: 915)

(15) أخرجه: مسلم (197).

(16) أخرجه: الترمذي (2016)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (5820).

(17) أخرجه: البخاري (3118).

(18) شرح رياض الصالحين (2/ 538).

(19) أخرجه البخاري (3472)

(20) أ خرجه ابن ماجه (2185) وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (1283)

(21)ا خرجه البخاري (2236).

(22) أخرجه ابن ماجه (3218) وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته (210).

(23) أخرجه أبى داود (3505) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (2867).

(24) أخرجه مسلم (3800).

(25) أخرجه مسلم (208).

(26) شرح رياض الصالحين (4/ 288).

(27) أخرجه البخاري (2079).

(28) أخرجه البخاري (2168).

(29) تفسير السعدي (ص: 564).

(30) أخرجه البخاري (6066).

عدد المشاهدات 5176