السنة هي المصدر الثاني للتشريع – الحلقة الثالثة

2011-05-05

زكريا حسينى

 الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا مباركًا فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير الخلق سيد ولد آدم، وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم إحسان إلى يوم الدين.

وبعدُ:

فقد تكلمنا في الحلقتين السابقتين عن السنة كمصدر ثان من مصادر التشريع بعد المصدر الأول وهو القرآن الكريم، وبيّنا بعض الشبهات التي أُثيرت حول السنة وردها، وفي هذا المقال نكمل الحديث مستعينين بالله تعالى فنقول وبه الثقة والتوفيق:

الشبهة الثالثة:

قالوا: هناك أخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تدل على عدم حجية السنة، ومن ذلك ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا اليهود فسألهم فحدّثوه حتى كذبوا على عيسى عليه السلام، فصعد النبي - صلى الله عليه وسلم - المنبر، فخطب الناس فقال: «إن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم يوافق القرآنَ، فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس عني». (معرفة السنن للبيهقي:7).

وقد روي هذا المعنى من طرق متعددة، وهو يفيد وجوب عرض ما يُنْسَب إليه - صلى الله عليه وسلم - على الكتاب، وأنه لا يصح التمسك إلا بما ساواه إجمالاً وتفصيلاً، دون ما أفاد حكمًا استقلالاً، ودون ما بيّن حكمًا قد أجمله الكتاب؛ لأن كلا منهما ليس موجودًا فيه، فتكون وظيفة السنة محض التأكيد، وعلى ذلك لا تكون حجة على حكم شرعي؛ لأن دلالة ما هو حجة على شيء لا تتوقف على ثبوت ذلك الشيء بحجة أخرى، بل لك أن تمنع التأكيد أيضًا، فإنه فرع صلاحية الدليل للتأسيس منفردًا فهي لا تُوصف إلا بالموافقة.

وقالوا أيضًا: وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا حُدثتم عني حديثًا تعرفونه ولا تنكرونه، قلته أم لم أقله، فصدِّقوا به؛ فإني أقول ما يُعرف ولا يُنكر، وإذا حُدثتم عني حديثًا تُنكرونه ولا تعرفونه، فلا تصدقوا به، فإني لا أقول ما يُنكر ولا يُعرف». (الدارقطني: 19، وضعفه الألباني). وقد روي هذا المعنى من طرق مختلفة، وهذا يفيد عرض ما نُسب إليه - صلى الله عليه وسلم - على المستحسن المعروف عند الناس من الكتاب أو العقل، فلا تكون السنة حجة كما تقدم.

وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني لا أُحِلُّ إلا ما أَحلَّ الله في كتابه، ولا أحرّم إلا ما حرَّم الله في كتابه». (سنن البيهقي: 13217).

وروي أن بعض الصحابة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل يجب الوضوء من القيء؟ فأجاب - صلى الله عليه وسلم -: «لو كان واجبًا لوجدته في كتاب الله تعالى». (الدارقطني: 41). فدل على أنه لا يجب إلا ما كان في كتاب الله، ولا توجب السنة شيئًا.

والجواب عن الشبهة:

أحاديث العرض كلها ضعيفة

أنه قد بيَّن ابن حزم في «الإحكام» والسيوطي في «مفتاح الجنة» أن أحاديث العرض على كتاب الله تعالى كلها ضعيفة، لا يصح التمسك بشيء منها، فمنها ما هو منقطع، ومنها ما بعض رواته غير ثقة أو مجهول، ومنها ما جَمَع بينهما.

وقال الإمام الشافعي في «الرسالة»: «ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صَغُرَ ولا كَبُرَ – ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شيء». اهـ.

وقال ابن عبد البر في «جامعه»: «قال عبد الرحمن بن مهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا هذا الحديث».

ثم قال: وهذه الألفاظ لا تصح عنه - صلى الله عليه وسلم - عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث قومٌ من أهل العلم، وقالوا: نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء، ونعتمد على ذلك، قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله تعالى وجدناه مخالفًا لكتاب الله؛ لأنا لم نجد في كتاب الله ألا يقبل من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما وافق كتاب الله، بل وجدناه يطلق التأسيَ به - صلى الله عليه وسلم -، والأمرَ بطاعته، ويحذر من المخالفة عن أمره جملةً على كل حال. اهـ. فقد رجع الحديث حينئذ على نفسه بالبطلان.

وقد ورد في بعض طرق هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنه سيأتيكم عني أحاديث مختلفة، فما أتاكم موافقًا لكتاب الله وسنتي فهو مني، وما أتاكم مخالفًا لكتاب الله وسنتي فليس مني». (الدارقطني: 5513، وضعفه الألباني).

وهذه الرواية – وإن كانت ضعيفة أيضًا – ليست أضعف من غيرها – وهي كما ترى – لنا لا علينا.

ومما يدل على أن هذا الخبر موضوع أنه صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه» (ابن ماجه 13 وصححه الألباني).

قال الإمام الشافعي في الرسالة بعد أن روى هذا الحديث: «فقد ضيّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس أن يردُّوا أمره؛ بفرض الله عليهم اتباعَ أمره».

وهل يفهم أحد من المسلمين – على فرض صحة حديث عرض السنة على القرآن – أن معنى الحديث أن ما يصدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نوعين: ما يوافق القرآن؛ فهذا يُعمل به، وما يخالفه؛ فهذا يُرَد؟

وكيف يكون هذا معنى الحديث ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - معصوم – بالاتفاق – عن أن يصدر عنه ما يخالف القرآن، وهو أعظم الناس حفظًا وأبلغهم له تدبرًا وفهمًا، وأكثرهم له ذكرًا؟ وقد قال ربنا تبارك وتعالى: [ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ](يونس:15)، فكل مسلم يعتقد أن كل ما يصدر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن يخالف القرآن بحالٍ من الأحوال.

والحق أنه لا يلزم من عدم مخالفة ما يصدر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - للكتاب بطلان حجية السنة، وألا يبين حكمًا أجمله القرآن، أو تخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو انتهاء حكم ونسخه، وألا يوضح مشكلاً فيه – كما يفهمه أصحاب الشبهة – فإن هذا البيان موافق تمام الموافقة لمراد الله تعالى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر برد ما يخالف الكتاب، ولا يلزم من ذلك ردُّ ما ليس بموافق ولا بمخالف، والدليل على ذلك رواية أخرى لحديث العرض على الكتاب – رواها ابن حزم – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الحديث عني على ثلاث: فأيما حديث بلغكم عني تعرفونه بكتاب الله تعالى فاقبلوه، وأيما حديث بلغكم عني لا تجدون في القرآن ما تنكرونه به، ولا تعرفون موضعه فيه فاقبلوه، وأيما حديث بلغكم عني تقشعر منه جلودكم وتشمئز منه قلوبكم وتجدون في القرآن خلافه فرُدّوه». وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة، فإنها من نوع ما يحتج به أصحاب الشبهة.

وعلى ذلك فلا دلالة في هذه الرواية على بطلان الاحتجاج بالسنة على حكمٍ لم يرد في القرآن الكريم، ودلت عليه مستقلة، فهو حكم لم يخالف القرآن؛ حيث قد سكت القرآن عنه.

بل القرآن قد تعرض له على وجه الموافقة إجمالاً، قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (الحشر: 7)، وعمّمه ولم يخصصه بالموافقة إجمالاً وتفصيلاً من كل وجه.

على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يفهم من القرآن ما لم يفهمه غيره، فنظنه نحن ليس في القرآن وهو فيه، ومن ذلك أنه سُئل - صلى الله عليه وسلم - عن الحُمر الأهلية، فقال: «ما أُنزِل عليَّ فيها شيءٌ إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (الزلزلة: 7، 8) (البخاري 2371).

فانظروا يا من تريدون أن تستقلوا باستنباط الأحكام من القرآن، بعيدًا عن السنة، أتستطيع عقولكم أن تستنبط هذا الحكم من هذه الآية؟ كما استنبطها الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: «ما من شيء إلا بُيِّن لنا في القرآن، ولكن فهمنا يقصر عن إدراكه، فلذلك قال الله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (النحل: 44). فهذا ابن مسعود – وهو من هو – أحد أجلاء الصحابة وأقدمهم إسلامًا. يقول: ولكن فهمنا يقصر عن إدراكه.

قال البيهقي في «المدخل»: وعلى الأحوال كلها، حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابت عنه قريبٌ من العقول، موافقٌ للأصول، لا ينكره عَقْلُ من عَقَلَ عن الله الموضع الذي وضع به نبيه من دينه، وما افترض على الناس من طاعته، ولا ينفر منه قلب مَن اعتقد تصديقه فيما قال، واتباعه فيما حكم به، وكما هو جميل حسن من حيث الشرع، جميل في الأخلاق، حسن عند أولي الألباب. اهـ.

قال ابن عبد البر: كان أبو إسحاق إبراهيم بن سيار يقول: بلغني وأنا أحدث أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اختناث فم القربة والشرب منه (اخْتَنَث السِّقاء: شرب من فم السقاء، وذلك بأن يثني فمه إلى خارج ويشرب منه أو أن يُكْسر فَيشْرَب من فيه)، فكنت أقول: إن لهذا الحديث لشأنًا، وما في الشرب من فم القربة حتى يجيء فيه هذا النهي؟ فلما قيل لي: إن رجلاً شرب من فم القربة فوكعته حية فمات، وإن الحيات والأفاعي تدخل في أفواه القرب، علمت أن كل شيء لا أعلم تأويله من الحديث أن له مذهبًا وإن جهلته.

فعقول المسلمين سليمة والحمد لله – إلا من شذ منهم – توجب الأخذ بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث إنه سفير ورسول بين الله وبين خلقه، وإن لم يكن جاء في كتاب.

الشبهة الرابعة

قال أصحاب الشبهات المتهوكون: لو كانت السنة حجةً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابتها، ولعمل الصحابة والتابعون – رضوان الله عليهم – من بعد على جمعها وتدوينها، فإن حُجيّتها تستدعي الاهتمام بها والعناية بحفظها والعمل على صيانتها؛ حتى لا يعبث بها العابثون، ولا يبدلها المبدلون، ولا ينساها الناسون، ولا يخطئ فيها المتحرون، وحفظها وصيانتها إنما يكون بالأمر بتحصيل سبيل القطع بثبوتها للمتأخرين، فإن ظنيّ الثبوت لا يصح الاحتجاج به، كما يدل عليه قوله تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (الإسراء:36)، وقوله تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ (الأنعام:116)، ولا يحصل القطع بثبوتها إلا بكتابتها وتدوينها كما هو الشأن في القرآن، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتصر على عدم الأمر بكتابتها، بل تعدى ذلك إلى النهي عنها، والأمر بمحو ما كُتب منها، وكذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم، والتابعون رحمة الله عليهم، ولم يحصل تدوينها وكتابتها إلا بعد مضي مدة طويلة تكفي لأن يحصل فيها من الخطأ والنسيان والتلاعب والتبديل والتغيير ما يورث الشك في أي شيء منها وعدم القطع به، ويجعلها جديرة بعدم الاعتماد عليها وأخذ حكم منها.

فهذا الذي حصل من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن الصحابة والتابعين يدل على أن الشارع قد أراد عدم حصول سبيل القطع بثبوتها، وهذه الإرادة تدل على أنه لم يعتبرها وأراد ألا تكون حجة.

ثم ساق أصحاب الشبهات أحاديث وآثارًا يستدلون بها على ما أصّلوه من هذه الشبهة، أقتصر على بعضها؛ فمنها:

حديث أبي سعيد عند مسلم في صحيحه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار» (مسلم 3004).

وحديثه عند أحمد في مسنده قال: كنا قعودًا نكتب ما نسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج علينا فقال: «ما هذا تكتبون؟» فقلنا: ما نسمع منك، فقال: «أَكتاب مع كتاب الله؟ محّضوا كتاب الله وخلّصوه». قال: فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد ثم أحرقناه بالنار، قلنا: أيْ رسول الله، أنتحدث عنك؟ قال: «نعم، تحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». قال: فقلنا: يا رسول الله، أنتحدث عن بني إسرائيل؟ قال: «نعم تحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، فإنكم لا تحدثون عنهم بشيء إلا وقد كان فيهم أعجب منه» (أحمد 11107).

وما رواه أبو داود عن المطلب بن عبد الله بن حَنْطَبٍ أنه قال: دخل زيد بن ثابت إلى معاوية – رضي الله عنهما – فسأله معاوية عن حديث فأخبره به، فأمر معاوية إنسانًا يكتبه، فقال له زيد: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا ألا نكتب شيئًا من حديثه، فمحاه. (أبو داود 3647 وضعفه الألباني).

وما رواه البيهقي في المدخل، وابن عبد البر عن عروة ابن الزبير (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يَكْتُبَ السنن، فاستفتى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فأشاروا عليه بأن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له، فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا، فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا) (موطأ مالك 1/ 27).

وما رواه ابن عبد البر عن أبي سعيد – وقد قيل له: لو اكتتبتنا الحديث – فقال: لا نكتبكم، خذوا عنا كما أخذنا عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -.

وما رواه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنا لا نَكْتُبُ العلم ولا نُكْتِبه.

وما رواه عن الأسود بن هلال أنه قال: أُتي عبد الله بصحيفة فيها حديث، فدعا بماء فمحاها، ثم غسلها، ثم أمر بها فأُحرقت، ثم قال: أذكِّر الله رجلاً يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أعلم أنها بدير هند لبلغتها، بذلك هلك أهل الكتاب قبلكم حين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون.

وما رواه عن الأوزاعي أنه قال: كان هذا العلم شيئًا شريفًا إذ كان من أفواه الرجال يتلاقونه ويتذاكرونه، فلما صار في الكتب ذهب نوره وصار إلى غير أهله.

إلى غير ذلك من الآثار.

الجواب عن الشبهة

قال الشيخ عبد الغني عبد الخالق في الجواب عن هذه الشبهة ما ملخصه: قد اشتملت هذه الشبهة على عدة مسائل، حاد فيها صاحبها عن سبيل الحق، وتجنب طريق الصواب، فينبغي لنا أن نبينها مسألة مسألة، مع بيان ما فيها من خطأ وفساد رأي؛ حتى تنهار من جميع نواحيها، وتقتنع تمام الاقتناع بفسادها، وذلك على النحو الآتي:

صيانة الحجة إنما تحصل بعدالة حاملها

المعوّل عليه في المحافظة على ما هو حجة وصيانته من التبديل والتغيير والخطأ؛ هو أن يحمله العدل الثقة حتى يوصله لمن هو مثله في هذه الصفة، سواء كان الحمل له على سبيل الحفظ للفظه، أم الكتابة له، أم الفهم لمعناه فهمًا دقيقًا مع التعبير عن ذلك المعنى بلفظ واضح بدون لبس ولا إبهام، فأي نوع من هذه الثلاثة يكفي في الصيانة، ما دامت صفة العدالة متحققة، فإذا اجتمعت هذه الثلاثة مع العدالة كان ذلك هو الغاية في المحافظة، وإذا اجتمعت الثلاثة وانتفت العدالة لم يغنِ اجتماعها شيئًا، ولم نأمن حينئذ من التبديل والعبث بالحجة.

ومن باب أولى إذا ما انفردت الكتابة عن الحفظ والفهم وعدالة الكاتب أو الحامل للمكتوب، فإننا لا نثق بشيء من المكتوب؛ فإن اليهود والنصارى كانوا يكتبون التوراة والإنجيل، ومع ذلك وقع التبديل والتغيير فيهما كما تجردوا من صفة العدالة، فقد قال الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (البقرة:79).

الحجية لا تتوقف على الكتابة

إذا كان المهم في المحافظة على الحجة عدالة حاملها – على أي وجه كان حملها – تحققنا أن الكتابة ليست من لوازم الحجية، وأن صيانة الحجة ليست متوقفة عليها، ومما يزيد ذلك بيانًا وتثبيتًا ما يلي:

أولاً: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرسل السفراء من الصحابة إلى القبائل ليدعوا الناس إلى الإسلام، ويعلموهم أحكامه، ويقيموا فيهم شعائره، ولم يرسل - صلى الله عليه وسلم - مع كل سفير مكتوبًا من القرآن يكفي لإقامة الحجة على جميع الأحكام التي يبلّغها السفير إلى المرسَل إليهم، بل الغالب أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكتب للسفير كتابًا يثبت فيه سفارته، ويصحح به بعثته، وفي بعض الأحيان كان يكتب له كتابًا مشتملاً على بعض الأحكام من السنة، وليس فيه نص قرآني، أو فيه نص قرآني غير أنه لا يكفي لإقامة الحجة على جميع الأحكام التي يراد تبليغها.

وحينئذ يتبين لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرى في عدالة السفير وحفظه لما حفظه من القرآن والسنة الكفاية في إقامة الحجة على المرسَل إليهم وإلزامهم اتباعه.

ثانيًا: نعلم أن الصلاة – وهي قاعدة الإسلام الثانية بعد الشهادتين – لا يمكن للمجتهد أن يهتدي إلى كيفيتها من القرآن وحده، بل لا بد من بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بكتابة كيفيتها التي بينها بفعله وقوله، ولو كانت الكتابة من لوازم الحجية لما جاز أن يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر الخطير لاجتهاد المجتهدين بمحض عقولهم.

ثالثًا: قد ثبتت حجية السنة بما لا يدع مجالاً للشك، وقد قامت الأدلة على ذلك، ومع كل ذلك لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر إيجاب بكتابة كل ما صدر عنه.

وللحديث بقية إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين.

مجلة التوحيد : العدد 474 - 1432هـ

عدد المشاهدات 5737