عليك بالصوم

2010-10-05

جمال المراكبى

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد

فإن الصوم من أفضل العبادات وأشرف القربات، أخرج أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي والطبراني في الكبير وعبد الرزاق في مصنفه عن رجاء بن حيوة عن أبي أمامة قال انشأ رسول الله غزوا فأتيته فقلت يا رسول الله ادع الله لي بالشهادة، فقال «اللهم سلمهم وغنمهم» قال فسلمنا وغنمنا ثم أنشأ غزوة فأتيته، فقلت يا رسول الله ادع الله لي بالشهادة، فقال «اللهم سلمهم وغنمهم» قال فسلمنا وغنمنا، ثم أنشأ غزوة ثالثة فقلت يا رسول الله، إني أتيتك مرتين قبل مرتي هذه فسألتك أن تدعو الله لي بالشهادة فدعوت الله أن يسلمنا ويغنمنا فسلمنا وغنمنا يا رسول الله فادعو الله لي بالشهادة، فقال «اللهم سلمهم وغنمهم» قال فسلمنا وغنمنا قال ثم أتيته فقلت يا رسول الله مرني بعمل لعلي أنتفع به؟ فقال «عليك بالصوم فإنه لا مثل له» قال فما رؤي أبو أمامة ولا امرأته ولا خادمه إلا صيامًا قال فكان إذا رؤي في داره الدخان بالنهار قيل اعتراهم ضيف نزل بهم نازل قال فلبثت بذلك ما شاء الله، ثم أتيته فقلت يا رسول الله أمرتنا بالصيام وأرجو أن يكون الله قد بارك لنا فيه يا رسول الله مرني بعمل آخر فقال «اعلم أنك لن تسجد لله سجدة إلا رفع الله لك بها درجة وحط عنك بها خطيئة» في الحديث بيان الهمة العالية لأبي أمامة وحرصه على الخير ورغبته في الشهادة والموت في سبيل الله والحرص على العمل الصالح والتزام الأفضل من نوافل الطاعات وبيان فضيلة الصوم وأنه لا مثيل له في القربات قال الحافظ في فتح الباري وَأَشَارَ ابن عَبْد الْبَرّ إِلَى تَرْجِيح الصِّيَام عَلَى غَيْره مِنْ الْعِبَادَات فَقَالَ حَسْبك بِكَوْنِ الصِّيَام جُنَّة مِنْ النَّار فَضْلاً وبقول النبي «عَلَيْك بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لا مِثْل لَهُ» وَفِي رِوَايَة «لا عَدْل لَهُ»

وَالْمَشْهُور عِنْد الْجُمْهُور تَرْجِيح الصَّلاة وقد ورد في هذا المعنى أحاديث صحيحة منها أنه سئل عن أفضل الأعمال فقال «إيمان بالله ورسوله ثم جهاد في سبيله ثم حج مبرور» وفي حديث آخر قال «الصلاة لوقتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد في سبيله» وفي آخر «واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة» وحديث أي الأعمال أفضل؟ قال «الصبر والسماحة» وقال لأبي أمامة عليك بالصوم فإنه لا مثل له فقيل في الجواب إن المراد أي من أفضل الأعمال النظائر وقيل إنه أجاب كل سائل بحسب ما هو الأفضل في حقه و بحسب ما يناسبه والأصلح له وما يقدر عليه ويطيقه ولهذا وفق أهل العلم بين هذه الأحاديث بحمل اختلاف الإجابات على اختلاف أحوال السائلين، كما تختلف إجابات الطبيب الماهر للمرضى بحسب اختلاف أحوالهم ولكن لماذا كان الصوم بهذه المثابة حيث عده النبي من أفضل العبادات وقال لأبي أمامة «عليك بالصوم فإنه لا عدل له» والجواب لأن الصوم قد تفرد بما يأتي

فالصوم جُنة وحصن حصين من النار كما ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «الصِّيَامُ جُنَّةٌ» وعَنْ أَبِى صَالِحٍ الزَّيَّاتِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضى الله عنه يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَسْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّى امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا؛ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ» عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَأَبِى سَعِيدٍ الخدري رضى الله عنهما قَالاَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ إِنَّ الصَّوْمَ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ إِنَّ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَيْنِ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِىَ اللَّهَ فَرِحَ وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» قال ابن حجر في فتح الباري قَوْله «الصِّيَام جُنَّة» زَادَ سَعِيد بْن مَنْصُور عَنْ مُغِيرَة بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِي الزِّنَاد «جُنَّة مِنْ النَّار» وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيث عَائِشَة مِثْله، وَلَهُ مِنْ حَدِيث عُثْمَان بْن أَبِي الْعَاص «الصِّيَام جُنَّة كَجُنَّةِ أَحَدكُمْ مِنْ الْقِتَال» وَلِأَحْمَد مِنْ طَرِيق أَبِي يُونُس عَنْ أَبِي هُرَيْرَة «جُنَّة وَحِصْن حَصِين مِنْ النَّار» وَلَهُ مِنْ حَدِيث أَبِي عُبَيْدَة بْنِ الْجَرَّاح «الصِّيَام جُنَّة مَا لَمْ يَخْرِقهَا» زَادَ الدَّارِمِيُّ «بِالْغِيبَةِ» وَبِذَلِكَ تَرْجَمَ لَهُ هُوَ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْجُنَّة بِضَمِّ الْجِيم الْوِقَايَة وَالسَّتْر وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الرِّوَايَات مُتَعَلَّق هَذَا السَّتْر وَأَنَّهُ مِنْ النَّار، وَبِهَذَا جَزَمَ اِبْن عَبْد الْبَرّ وَأَمَّا صَاحِب «النِّهَايَة» فَقَالَ مَعْنَى كَوْنه جُنَّة أَيْ يَقِي صَاحِبه مَا يُؤْذِيه مِنْ الشَّهَوَات وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ جُنَّة أَيْ سُتْرَة، يَعْنِي بِحَسَبِ مَشْرُوعِيَّته، فَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَصُونَهُ مِمَّا يُفْسِدهُ وَيَنْقُص ثَوَابه، وَإِلَيْهِ الإِشَارَة بِقَوْلِهِ «فَإِذَا كَانَ يَوْم صَوْم أَحَدكُمْ فَلا يَرْفُث إِلَخْ»، وَيَصِحّ أَنْ يُرَاد أَنَّهُ سُتْرَة بِحَسَبِ فَائِدَته وَهُوَ إِضْعَاف شَهَوَات النَّفْس، وَإِلَيْهِ الإِشَارَة بِقَوْلِهِ «يَدَع شَهْوَته إِلَخْ»، وَيَصِحّ أَنْ يُرَاد أَنَّهُ سُتْرَة بِحَسَبِ مَا يَحْصُل مِنْ الثَّوَاب وَتَضْعِيف الْحَسَنَات وَقَالَ عِيَاض فِي «الإِكْمَال» مَعْنَاهُ سُتْرَة مِنْ الآثَام أَوْ مِنْ النَّار أَوْ مِنْ جَمِيع ذَلِكَ، وَبِالأَخِيرِ جَزَمَ النَّوَوِيّ وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ إِنَّمَا كَانَ الصَّوْم جُنَّة مِنْ النَّار لِأَنَّهُ إِمْسَاك عَنْ الشَّهَوَات، وَالنَّار مَحْفُوفَة بِالشَّهَوَاتِ فَالْحَاصِل أَنَّهُ إِذَا كَفّ نَفْسه عَنْ الشَّهَوَات فِي الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ سَاتِرًا لَهُ مِنْ النَّار فِي الآخِرَة وَفِي زِيَادَة أَبِي عُبَيْدَة بْن الْجِرَاح إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْغِيبَة تَضُرّ بِالصِّيَامِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَائِشَة، وَبِهِ قَالَ الأَوْزَاعِيُّ إِنَّ الْغِيبَة تُفْطِر الصَّائِم وَتُوجِب عَلَيْهِ قَضَاء ذَلِكَ الْيَوْم وَأَفْرَطَ اِبْن حَزْم فَقَالَ يُبْطِلهُ كُلّ مَعْصِيَة مِنْ مُتَعَمِّد لَهَا ذَاكِر لِصَوْمِهِ سَوَاء كَانَتْ فِعْلًا أَوْ قَوْلًا، لِعُمُومِ قَوْله «فَلا يَرْفُث وَلا يَجْهَل» وَلِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيث الآخر «مَنْ لَمْ يَدَع قَوْل الزُّور وَالْعَمَل بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَة فِي أَنْ يَدَع طَعَامه وَشَرَابه»، وَالْجُمْهُور وَإِنْ حَمَلُوا النَّهْي عَلَى التَّحْرِيم إِلاَّ أَنَّهُمْ خَصُّوا الْفِطْر بِالأَكْلِ وَالشُّرْب وَالْجِمَاع وقد وردت معظم هذه الروايات التي أشار إليها الحافظ في مصنف ابن أبي شيبة حيث ترجم لها بعنوان ما ذكر في فضل الصيام وثوابه

عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال أتيت عثمان بن أبي العاص فدعا لي بلبن لقحة فقلت إني صائم فقال أما إني سمعت رسول الله يقول «الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال وصيام حسن صيام ثلاثة أيام من كل شهر» وعن هبيرة قال قال عبد الله الصوم جنة من النار كجنة الرجل إذا حمل من السلاح ما أطاق وعن عياض بن غطيف قال دخلنا على أبي عبيدة بن الجراح في مرضه فقال سمعت رسول الله يقول «الصوم جنة ما لم يخرقها» ولأجل هذا كان السلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم بإحسان يحافظون على الصوم ويكثرون من التطوع فيه ويحفظون فيه الجوارح من اللغو والرفث روى ابن أبي شيبة في مصنفه باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب قال طليق بن قيس قال أبو ذر إذا صمت فتحفظ ما استطعت، وكان طليق إذا كان يوم صومه دخل فلم يخرج إلا لصلاة قال جابر إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم ودع أذى الخادم وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء

وعن أبي المتوكل أن أبا هريرة وأصحابه كانوا إذا صاموا جلسوا في المسجد و عن الشعبي قال قال عمر ليس الصيام من الطعام والشراب وحده ولكنه من الكذب والباطل واللغو والحلف وعن كثير بن هشام عن جعفر قال سمعت ميمونا يقول إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب وعن الشعبي عن علي أن الصيام ليس من الطعام والشراب ولكن من الكذب والباطل واللغو وعن الشعبي عن مسروق أن عمر قال مثل ذلك وعن مجاهد قال خصلتان من حفطهما سلم له صومه الغيبة والكذب وعن الاعمش عن إبراهيم قال كانوا يقولون الكذب يفطر الصائم وعن أبي العالية قال الصائم في عبادة ما لم يغتب

خلوف فم الصائم

بِضَمِّ الْمُعْجَمَة وَاللاَّم وَسُكُون الْوَاو بَعْدهَا فَاء قَالَ عِيَاض هَذِهِ الرِّوَايَة الصَّحِيحَة، وَبَعْض الشُّيُوخ يَقُولهُ بِفَتْحِ الْخَاء، قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَهُوَ خَطَأ، وَحَكَى الْقَابِسِيّ الْوَجْهَيْنِ، وَبَالَغَ النَّوَوِيّ فِي «شَرْح الْمُهَذَّب» فَقَالَ لا يَجُوز فَتْح الْخَاء، أَوَّله ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِهِ تَغَيُّر رَائِحَة فَم الصَّائِم بِسَبَبِ الصِّيَام «أَطْيَب عِنْد اللَّه مِنْ رِيح الْمِسْك» اُخْتُلِفَ فِي كَوْن الْخُلُوف أَطْيَب عِنْد اللَّه مِنْ رِيح الْمِسْك قَالَ الْمَازِرِيّ هُوَ مَجَاز لِأَنَّهُ جَرَتْ الْعَادَة بِتَقْرِيبِ الرَّوَائِح الطَّيِّبَة مِنَّا فَاسْتُعِيرَ ذَلِكَ لِلصَّوْمِ لِتَقْرِيبِهِ مِنْ اللَّه، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَطْيَب عِنْد اللَّه مِنْ رِيح الْمِسْك عِنْدكُمْ أَيْ يُقَرَّب إِلَيْهِ أَكْثَر مِنْ تَقْرِيب الْمِسْك إِلَيْكُمْ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ اِبْن عَبْد الْبَرّ، وَقِيلَ الْمُرَاد أَنَّ ذَلِكَ فِي حَقّ الْمَلائِكَة وَأَنَّهُمْ يَسْتَطِيبُونَ رِيح الْخُلُوف أَكْثَر مِمَّا يَسْتَطِيبُونَ رِيح الْمِسْك، وَقِيلَ الْمُرَاد أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَجْزِيه فِي الآخِرَة فَتَكُون نَكْهَته أَطْيَب مِنْ رِيح الْمِسْك كَمَا يَأْتِي الْمَكْلُوم وَرِيح جُرْحه تَفُوح مِسْكًا وَقِيلَ الْمُرَاد أَنَّ صَاحِبه يَنَال مِنْ الثَّوَاب مَا هُوَ أَفْضَل مِنْ رِيح الْمِسْك لا سِيَّمَا بِالإِضَافَةِ إِلَى الْخُلُوف حَكَاهُمَا عِيَاض وَقَالَ الدَّاوُدِيّ وَجَمَاعَة الْمَعْنَى أَنَّ الْخُلُوف أَكْثَر ثَوَابًا مِنْ الْمِسْك الْمَنْدُوب إِلَيْهِ فِي الْجُمَع وَمَجَالِس الذِّكْر، وَرَجَّحَ النَّوَوِيّ هَذَا الأَخِير، وَحَاصِله حَمْل مَعْنَى الطِّيب عَلَى الْقَبُول وَالرِّضَا

وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي حُسَيْن فِي تَعْلِيقه أَنَّ لِلطَّاعَاتِ يَوْم الْقِيَامَة رِيحًا تَفُوح قَالَ فَرَائِحَة الصِّيَام فِيهَا بَيْن الْعِبَادَات كَالْمِسْكِ، وَيُؤَيِّد الثَّلاثَة الأَخِيرَة قَوْله فِي رِوَايَة مُسْلِم وَأَحْمَد وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيق عَطَاء عَنْ أَبِي صَالِح «أَطْيَب عِنْد اللَّه يَوْم الْقِيَامَة» وَقَدْ تَرْجَمَ اِبْن حِبَّان بِذَلِكَ فِي صَحِيحه، ثُمَّ قَالَ «ذِكْر الْبَيَان بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُون فِي الدُّنْيَا» ثُمَّ أَخْرَجَ الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا «فَم الصَّائِم حِين يَخْلُف مِنْ الطَّعَام» وَهِيَ عِنْده وَعِنْد أَحْمَد مِنْ طَرِيق الأَعْمَش عَنْ أَبِي صَالِح، وَيُمْكِن أَنْ يُحْمَل قَوْله «حِين يَخْلُف» عَلَى أَنَّهُ ظَرْف لِوُجُودِ الْخُلُوف الْمَشْهُود لَهُ بِالطِّيبِ فَيَكُون سَبَبًا لِلطِّيبِ فِي الْحَال الثَّانِي فَيُوَافِق الرِّوَايَة الأُولَى وَهِيَ قَوْله «يَوْم الْقِيَامَة» لَكِنْ يُؤَيِّد ظَاهِره وَأَنَّ الْمُرَاد بِهِ فِي الدُّنْيَا مَا رَوَى الْحَسَن بْن سُفْيَان فِي مُسْنَده وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَب مِنْ حَدِيث جَابِر فِي أَثْنَاء حَدِيث مَرْفُوع فِي فَضْل هَذِهِ الأُمَّة فِي رَمَضَان، وَأَمَّا الثَّانِيَة «فَإِنَّ خُلُوف أَفْوَاههمْ حِين يَمَسُّونَ أَطْيَب عِنْد اللَّه مِنْ رِيح الْمِسْك»

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَة إِحْدَى الْمَسَائِل الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا اِبْن عَبْد السَّلام وَابْن الصَّلاح، فَذَهَبَ اِبْن عَبْد السَّلام إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الآخِرَة كَمَا فِي دَم الشَّهِيد وَاسْتَدَلَّ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا «يَوْم الْقِيَامَة» وَذَهَبَ اِبْن الصَّلاح إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَاسْتَدَلَّ بِمَا تَقَدَّمَ وَأَنَّ جُمْهُور الْعُلَمَاء ذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ طِيبه عِنْد اللَّه رِضَاهُ بِهِ وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ وَقَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ أَزْكَى عِنْد اللَّه وَأَقْرَب إِلَيْهِ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ مَعْنَاهُ الثَّنَاء عَلَى الصَّائِم وَالرِّضَا بِفِعْلِهِ، وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ الْقُدُورِيّ مِنْ الْحَنَفِيَّة وَالدَّاوُدِيّ وَابْن الْعَرَبِيّ مِنْ الْمَالِكِيَّة وَأَبُو عُثْمَان الصَّابُونِيّ وَأَبُو بَكْر بْن السَّمْعَانِيّ وَغَيْرهما مِنْ الشَّافِعِيَّة، جَزَمُوا كُلّهمْ بِأَنَّهُ عِبَارَة عَنْ الرِّضَا وَالْقَبُول، وَأَمَّا ذِكْر يَوْم الْقِيَامَة فِي تِلْكَ الرِّوَايَة فَلِأَنَّهُ يَوْم الْجَزَاء وَفِيهِ يَظْهَر رُجْحَان الْخُلُوف فِي الْمِيزَان عَلَى الْمِسْك الْمُسْتَعْمَل لِدَفْعِ الرَّائِحَة الْكَرِيهَة طَلَبًا لِرِضَا اللَّه تَعَالَى حَيْثُ يُؤْمَر بِاجْتِنَابِهَا، فَقَيَّدَهُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة فِي رِوَايَة وَأَطْلَقَ فِي بَاقِي الرِّوَايَات نَظَرًا إِلَى أَنَّ أَصْل أَفْضَلِيَّته ثَابِت فِي الدَّارَيْنِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ «إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ» وَهُوَ خَبِير بِهِمْ فِي كُلّ يَوْم وَيَتَرَتَّب عَلَى هَذَا الْخِلاف الْمَشْهُور فِي كَرَاهَة إِزَالَة هَذَا الْخُلُوف بِالسِّوَاكِ، والراجح ان السواك سنة مستحبة على كل حال وَيُؤْخَذ مِنْ قَوْله «أَطْيَب مِنْ رِيح الْمِسْك» أَنَّ الْخُلُوف أَعْظَم مِنْ دَم الشَّهَادَة لِأَنَّ دَم الشَّهِيد شَبَّهَ رِيحه بِرِيحِ الْمِسْك، وَالْخُلُوف وُصِفَ بِأَنَّهُ أَطْيَب، وَلا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُون الصِّيَام أَفْضَل مِنْ الشَّهَادَة لِمَا لا يَخْفَى

الصّيَام لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ

قال الحافظ وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى «الصِّيَام لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» مَعَ أَنَّ الأَعْمَال كُلّهَا لَهُ وَهُوَ الَّذِي يَجْزِي بِهَا عَلَى أَقْوَال أَحَدهَا أَنَّ الصَّوْم لا يَقَع فِيهِ الرِّيَاء كَمَا يَقَع فِي غَيْره، حَكَاهُ الْمَازِرِيّ وَنَقَلَهُ عِيَاض عَنْ أَبِي عُبَيْد، وَلَفْظ أَبِي عُبَيْد فِي غَرِيبه قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَعْمَال الْبِرّ كُلّهَا لِلَّهِ وَهُوَ الَّذِي يَجْزِي بِهَا، فَنَرَى وَاللَّه أَعْلَم أَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّ الصِّيَام لِأَنَّهُ لَيْسَ يَظْهَر مِنْ اِبْنِ آدَم بِفِعْلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْء فِي الْقَلْب وَيُؤَيِّد هَذَا التَّأْوِيل قَوْله «لَيْسَ فِي الصِّيَام رِيَاء» حَدَّثَنِيهِ شَبَابَة عَنْ عُقَيْل عَنْ الزُّهْرِيِّ فَذَكَرَهُ يَعْنِي مُرْسَلًا قَالَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الأَعْمَال لا تَكُونُ إِلاَّ بِالْحَرَكَاتِ، إِلاَّ الصَّوْم فَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّيَّةِ الَّتِي تَخْفَى عَنْ النَّاس، وَهَذَا وَجْه الْحَدِيث عِنْدِي،اِنْتَهَى

وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ لَمَّا كَانَتْ الأَعْمَال يَدْخُلهَا الرِّيَاء وَالصَّوْم لا يَطَّلِع عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ فِعْله إِلاَّ اللَّه فَأَضَافَهُ اللَّه إِلَى نَفْسه، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيث «يَدَع شَهْوَته مِنْ أَجْلِي» وَقَالَ اِبْنِ الْجَوْزِيّ جَمِيع الْعِبَادَات تَظْهَر بِفِعْلِهَا وَقَلَّ أَنْ يَسْلَم مَا يَظْهَر مِنْ شَوْب، بِخِلافِ الصَّوْم وَارْتَضَى هَذَا الْجَوَاب الْمَازِرِيّ وَقَرَّرَهُ الْقُرْطُبِيّ بِأَنَّ أَعْمَال بَنِي آدَم لَمَّا كَانَتْ يُمْكِن دُخُول الرِّيَاء فِيهَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ، بِخِلافِ الصَّوْم فَإِنَّ حَالَ الْمُمْسِك شِبَعًا مِثْل حَالِ الْمُمْسِك تَقَرُّبًا يَعْنِي فِي الصُّورَة الظَّاهِرَة

ثَانِيهَا أَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ «وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» أَنِّي أَنْفَرِد بِعِلْمِ مِقْدَار ثَوَابه وَتَضْعِيف حَسَنَاته وَأَمَّا غَيْره مِنْ الْعِبَادَات فَقَدْ اِطَّلَعَ عَلَيْهَا بَعْض النَّاس قَالَ الْقُرْطُبِيّ مَعْنَاهُ أَنَّ الأَعْمَال قَدْ كَشَفْت مَقَادِير ثَوَابهَا لِلنَّاسِ وَأَنَّهَا تُضَاعَف مِنْ عَشْرَة إِلَى سَبْعمِائَةِ إِلَى مَا شَاءَ اللَّه، إِلاَّ الصِّيَام فَإِنَّ اللَّه يُثِيب عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَقْدِير وَيَشْهَد لِهَذَا السِّيَاق الرِّوَايَة الأُخْرَى يَعْنِي رِوَايَة الْمُوَطَّأ، وَكَذَلِكَ رِوَايَة الأَعْمَش عَنْ أَبِي صَالِحِ حَيْثُ قَالَ «كُلّ عَمَل اِبْنِ آدَمِ يُضَاعَف الْحَسَنَة بِعَشْرِ أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْف إِلَى مَا شَاءَ اللَّه قَالَ اللَّه إِلاَّ الصَّوْم فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» أَيْ أُجَازِي عَلَيْهِ جَزَاء كَثِيرًا مِنْ غَيْر تَعْيِين لِمِقْدَارِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» اِنْتَهَى

وَالصَّابِرُونَ الصَّائِمُونَ فِي أَكْثَرِ الأَقْوَال وَسَبَقَ إِلَى هَذَا أَبُو عُبَيْد فِي غَرِيبه فَقَالَ بَلَغَنِي عَنْ اِبْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّ الصَّوْم هُوَ الصَّبْر لِأَنَّ الصَّائِم يُصَبِّر نَفْسه عَنْ الشَّهَوَات، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» اِنْتَهَى وَيُؤَيِّدهُ أَيْضًا الْعُرْف الْمُسْتَفَاد مِنْ قَوْله «أَنَا أَجْزِي بِهِ» لأَنَّ الْكَرِيم إِذَا قَالَ أَنَا أَتَوَلَّى الإِعْطَاء بِنَفْسِي كَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَة إِلَى تَعْظِيم ذَلِكَ الْعَطَاء وَتَفْخِيمه

ثَالِثهَا مَعْنَى قَوْله «الصَّوْم لِي» أَيْ أَنَّهُ أَحَبّ الْعِبَادَات إِلَيَّ وَالْمُقَدَّم عِنْدِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْل اِبْنِ عَبْد الْبَرّ كَفَى بِقَوْلِهِ «الصَّوْم لِي» فَضْلًا لِلصِّيَامِ عَلَى سَائِر الْعِبَادَات وقوله «عَلَيْك بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لا مِثْل لَهُ» لَكِنْ يُعَكِّر عَلَى هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح «وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْر أَعْمَالكُمْ الصَّلاة»

رَابِعِهَا الإِضَافَة إِضَافَة تَشْرِيف وَتَعْظِيم كَمَا يُقَال بَيْت اللَّه وَإِنْ كَانَتْ الْبُيُوت كُلّهَا لِلَّهِ قَالَ الزَّيْن بْن الْمُنِير التَّخْصِيص فِي مَوْضِع التَّعْمِيم فِي مِثْل هَذَا السِّيَاق لا يُفْهَم مِنْهُ إِلاَّ التَّعْظِيم وَالتَّشْرِيف

خامسها أَنَّ جَمِيع الْعِبَادَات تُوَفَّى مِنْهَا مَظَالِم الْعِبَاد إِلاَّ الصِّيَام، رَوَى ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيق إِسْحَاق بْن أَيُّوب بْن حَسَّان الْوَاسِطِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ اِبْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يُحَاسِب اللَّه عَبْده وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَظَالِم مِنْ عَمَله حَتَّى لا يَبْقَى لَهُ إِلاَّ الصَّوْم، فَيَتَحَمَّل اللَّه مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَظَالِم وَيُدْخِلهُ بِالصَّوْمِ الْجَنَّة قَالَ الْقُرْطُبِيّ قَدْ كُنْت اِسْتَحْسَنْت هَذَا الْجَوَاب إِلَى أَنْ فَكَّرْت فِي حَدِيث الْمُقَاصَّة فَوَجَدْت فِيهِ ذِكْر الصَّوْم فِي جُمْلَة الأَعْمَال حَيْثُ قَالَ «الْمُفْلِس الَّذِي يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة بِصَلاةٍ وَصَدَقَة وَصِيَام، وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا وَأَكَلَ مَالِ هَذَا» الْحَدِيث وَفِيهِ «فَيُؤْخَذ لِهَذَا مِنْ حَسَنَاته وَلِهَذَا مِنْ حَسَنَاته، فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاته قَبْل أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتهمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار» فَظَاهِرُهُ أَنَّ الصِّيَام مُشْتَرِك مَعَ بَقِيَّة الأَعْمَال فِي ذَلِكَ

قلت القائل ابن حجر إِنْ ثَبَتَ قَوْل اِبْنِ عُيَيْنَةَ أَمْكَنَ تَخْصِيص الصِّيَام مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ يُسْتَدَلّ لَهُ بِمَا رَوَاهُ أَحْمَد مِنْ طَرِيق حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ مُحَمَّد بْن زِيَاد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَفَعَهُ «كُلّ الْعَمَل كَفَّارَة إِلاَّ الصَّوْم، الصَّوْم لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنَده عَنْ شُعْبَة عَنْ مُحَمَّد بْن زِيَاد وَلَفْظه «قَالَ رَبّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلّ الْعَمَل كَفَّارَة إِلاَّ الصَّوْم» اللهم وفقنا لصيام رمضان وقيامه، والعمل الصالح فيه، واجعله خالصاً لوجهك الكريم والله من وراء القصد.

عدد المشاهدات 5514