خطبة: كل الناس يغدو - عدد ربيع الأول 1439هـ من كتاب الواعظ

2017-11-22

اللجنة العلمية

كُـــلُّ النَّــاسِ يَغْـــدُو

كُـــلُّ النَّــاسِ يَغْـــدُو

الغاية من خلق الإنسان

وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ

كل النـاس موبـق أو معتـق

اعتقــــــوا أنفســــــكم

لقد أصبح حال الكثير من المسلمين اليوم إلا من رحم ربك لا همَّ لهم إلا السعي وراء حطام الدنيا فهي غاية آمالهم في هذا الزمان ومنتهى مرادهم، متناسين غافلين عن قول الله عز وجل: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]

وغافلين عن قول الله جل جلاله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16]

فمن كان همَّه ومراده وشغله الشاغل هو العمل من أجل الدنيا، فإن الله بعَدلِه يوفيه عمله الذي التمسه من أجل الدنيا، ولكنه ينال الخسران من الله في الآخرة {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]

ولقد حذرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- من الركون إلى الدنيا ولذاتها مخافة الوصول إلى التنافس والتعارك والتحاسد والتناحر على حطامها فقال -صلى الله عليه وسلم-: " فَوَاللَّهِ لاَ الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ"(1).

النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أَنَّ السَّلاَمَةَ فِيْها تَرْكُ ما فِيها

لا دار للمرء بعد المـــــــــــوت يسكنها إِلاّ الَّتي كانَ قَبْلَ المَوْت بانِيها

فَإِنْ بَنَاها بِخَيْرٍ طابَ مَسْكِنُها وَإِنْ بَنَاها بِشَرٍّ خابَ بانِيها(2).

وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا"(3).

الغاية من خلق الإنسان

لقد خلق الله عز وجل الإنسان وميزه عن باقي المخلوقات وكرَّمه، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض، لا ليأكل ويشرب ويتمتع ويلبس ويلهو ويلعب، وإنما خلقه لعبادته كما أخبر بذلك جل جلاله فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]

وقال سبحانه مخاطبًا الغافلين عن هذه الغاية التي من أجلها خلقوا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 115 - 117]

وقال جل جلاله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] يعني لا يؤمر ولا ينهى. والظاهر أن الآية تعم الحالين، أي: ليس يترك في هذه الدنيا مهملًا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث، بل هو مأمور منهي في الدنيا، محشور إلى الله في الدار الآخرة(4).

فَالْعِبَادَةُ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي خَلَقَ لَهَا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالْخَلَائِقَ كُلَّهَا، وَلَهَا أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ، وَلِأَجْلِهَا خُلِقَتِ الْجَنَّةُ وَالْنَارُ؟ (5).

وإن الغفلة عن تحقيق المقصود من خلق الخلق وهو التعبد لله لمن أعظم أسباب انهزام أمتنا وقد أخبر بذلك الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى فقال -صلى الله عليه وسلم-: " يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ". فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: " بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ". فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ: " حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ"(6).

وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ

لقد أخبر ربنا تبارك وتعالى عباده أن الدنيا دار ممر لا دار مقر، ووعظ الله عز وجل عباده وذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها، وأخبر أن كل صغير وكبير ودقيق وجليل مرجعه ومآبه إلى خالقه جل جلاله، ولا محالة ولا مهرب ولا مفر من إتيان الآخرة والرجوع إليه تعالى ومحاسبته تعالى خلقَه على ما عملوا، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر، ويحذرهم عقوبته، فقال تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ }[البقرة: 281](7).

فليحذر العباد وليتعظوا بموعظة الله لهم وليمتثلوا أمره فالأمر جدُّ خطير وعظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه.

قال أبو جعفر الطبري: في تفسير هذه الآية، يعني بذلك جل ثناؤه: واحذروا أيها الناس يومًا ترجعون فيه إلى الله فتلقونه فيه، أن ترِدوا عليه بسيئات تهلككم، أو بمخزيات تخزيكم، أو بفاضحات تفضحكم، فتهتِكُ أستاركم، أو بموبقات توبقكم، فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قِبل لكم به، وإنه يوم مجازاة بالأعمال، لا يوم استعتاب، ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة، توفى فيه كل نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيئ وصالح، لا تغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت، فوفيت جزاءها بالعدل من ربها، وهم لا يظلمون.

وكيف يُظلم من جوزي بالإساءة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها؟! كلا بل عدل عليك أيها المسيء، وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن، فاتقى امرؤ ربه، وأخذ منه حذره، وراقبه أن يهجم عليه يومه، وهو من الأوزار ظهره ثقيل، ومن صالحات الأعمال خفيف، فإنه عز وجل حذَّر فأعذر، ووعظ فأبلغ(8).

وصدق ربنا إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 18 - 20]

فكل إنسان مسئول أمام الله عز وجل عما قدم من العمل موقوف بين يدي ربه ليكلمه ويسأله لا حاجب بينه وبين ربه ولا ترجمان، فعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ-رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ قَالَ الأَعْمَشُ وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ خَيْثَمَةَ مِثْلَهُ وَزَادَ فِيهِ وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ(9).

فاستعدوا للقاء الله وتزودوا بالتقوى والعمل الصالح، وليكن قدوتكم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين ضربوا أروع الأمثلة في الخوف من لقاء الله عز وجل مع حسن عملهم وجهادهم في نصرة دين الله وهذا أمر لا يخفى عليكم ومع حسن مراقبة الله عز وجل إلا أنهم كانوا وَجِلين خائِفين من يوم العرض على قيومِ السماوات والأرض، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنه-، قَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَوْ تَعْلَمُونَ حَقَّ الْعِلْمِ لَصَرَخَ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَنْقَطِعَ صَوْتُهُ، وَلَسَجَدَ حَتَّى يَنْقَطِعَ صُلْبُهُ(10).

وَقَرَأَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنه-: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}، فَلَمَّا أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} بَكَى حَتَّى خُنَّ، وَحَتَّى انْقَطَعَ عَنْ قِرَاءَةِ مَا بَعْدَهَا.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ -رضي الله عنه-: "وَلَأَنْ أَدْمَعَ دَمْعَةً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ".

وَبَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ -رضي الله عنه-، فَبَكَتِ امْرَأَتُهُ فَقَالَ لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: أَبْكَانِي الَّذِي أَبْكَاكَ، قَالَ: "أَبْكَانِي أَنِّي وَارِدٌ النَّارَ فَلَا أَدْرِي أَنَاجٍ مِنْهَا أَمْ لَا"(11).

كل الناس موبقٌ أو معتقٌ

إن الناس في مسيرهم إلى الله عز وجل ينقسمون إلى قسمين لا ثالث لهما: إما غاد لإيباق نفسه، وإما غاد لإعتاق نفسه ولقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا"(12).

وفي لفظ آخر قال -صلى الله عليه وسلم-: "النَّاسُ غَادِيَانِ، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقٌ رَقَبَتَهُ، وَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقٌ رَقَبَتَهُ"(13).

قال النووي: "وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها"، فمعناه كل انسان يسعى بنفسه فمنهم من يبيعها لله تعالى بطاعته فيعتقها من العذاب

ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى باتباعهما فيوبقها أي يهلكها والله أعلم"(14).

وقال ابن القيم: الناس قسمان: عِليَةٌ و سَفِلَةٌ.

فالعِليَـة: من عرف الطريق إلى ربه وسلكها قاصداً الوصول إليه، وهذا هو الكريم على ربه.

والسَفِلَة: من لم يعرف الطريق إلى ربه ولم يتعرفها، فهذا هو اللئيم الذى قال الله تعالى فيه: {وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مَكْرِمٍ} [الحج: 18](15).

فلينظر كل واحد منا من أي الفريقين؟ ومن أي الصنفين؟ ومن أي الغاديين؟ وإنما يقسَّم الناس إلى هذين الفريقين على حسب أقوالهم وأفعالهم:

-فمن الناس من يغدُو ليوبق نفسه بسوء قوله فإذا تكلم لا تسمع فاه يفوح إلا بكل سباب وفحش وكذب وبذاءة، وتراه على أدنى المواقف يسب دين رب العالمين ويلعن الإسلام والمسلمين، متناسيًا قول النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم-: " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَهْوِى بِهَا فِى النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ "(16).

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا ": مَعْنَاهُ لَا يَتَدَبَّرهَا وَيُفَكِّر فِي قُبْحهَا، وَلَا يَخَاف مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا، وَهَذَا كَالْكَلِمَةِ عِنْد السُّلْطَان وَغَيْره مِنْ الْوُلَاة، وَكَالْكَلِمَةِ تُقْذَف، أَوْ مَعْنَاهُ كَالْكَلِمَةِ الَّتِي يَتَرَتَّب عَلَيْهَا إِضْرَار مُسْلِم وَنَحْو ذَلِكَ. وَهَذَا كُلّه حَثّ عَلَى حِفْظ اللِّسَان كَمَا قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: " مَنْ كَانَ يُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُت "، وَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ النُّطْق بِكَلِمَةٍ أَوْ كَلَام أَنْ يَتَدَبَّرهُ فِي نَفْسه قَبْل نُطْقه، فَإِنْ ظَهَرَتْ مَصْلَحَته تَكَلَّمَ، وَإِلَّا أَمْسَكَ(17).

وغادٍ آخر لا يعرف إلا الصدق في الحديث، فحفظ لسانه من الوقوع في أعراض الناس والنطق بما يغضب الله عز وجل فكان جزاؤه أن وُفِق لما كان خيرًا له، وفي نهاية حياته نال الرضوان والفضل من الله العظيم، فختم له بخير الكلام، "ومن كان آخرُ كلامهِ لا إله إلا اللهُ دخل الجنة"(18).

-وصنف من الناس آخر يغدو تاركًا لصلاته متبعًا لشهواته، متناسيًا قول الله جل جلاله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } [مريم: 59]

غافلاً عن قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}

فترى هذا الصنف من الناس يغدو على كل مكان وطريق فيه لهو ولعب، كالعاكفين في الملاعب ليل نهار والجالسين على المقاهي، لا يعرفون لله حق ولا يعرفون لأي مسجد طريق.

قارن هذا الصنف بصنفٍ آخر علموا حق الله عليهم فتعلقت قلوبهم بالمساجد محافظين على الصلوات راجين العفو والفضل من رب الأرض والسماوات إلى أن شاء الله عز وجل أن تقبض أرواحهم على ما كانوا يحبون من العبادات، كما ذكر عن رجل اسمه" عبد الرحيم بن نصر بن يوسف "، وهو من فقهاء الشافعية، وكان يؤم الناس بمدرسة بعلبك، مات وهو في السجدة الثانية من الركعة الثالثة من الظهر سجدها فانتظره من خلفه أن يرفع رأسه ثم رفعوا رؤوسهم وحركوه فوجدوه ميتا وذلك سنة ست وخمسين وستمائة(19).

وذُكر في زماننا عن شاب أمريكي أسلم على إثر رؤية رآها فحسن إسلامه، وتعلق قلبه بأحد المساجد التي في المراكز الإسلامية هناك ولم يمض على إسلامه إلا فترة قصيرة فما لبث إلا أن مات ساجدًا في إحدى الصلوات، فما أجملها من خاتمة نسأل أن يختم لنا بخاتمة الصالحين.

-وصنف آخر من الناس يغدو في طلب رزقه لا يبالي من أي وجه يطلبه، ولا يهمه إلا جمع المال سواء كان من حرام أم حلال فتراه يتعامل بالربا بدعوى المصلحة والفائدة، وتراه يقبل الرِشوة، وتراه يشهد الزور، وتراه يأكل أموال الناس بالكذب والباطل والبهتان، ولا تراه إلا في جمع كل خبيث من الطعام، تاركًا ما طيَّبه الله له متناسيًا قول ربه جل وعلا: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 168، 169]

غافلًا عن قول النبي-صلى الله عليه وسلم-: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا "(20).

قارن هذا الصنف من الناس بمن يبحث عن الحلال الطيب مع ندرته لكنه لا يعجز عن طلبه والله المستعان، ومثل هذا الصنف ما ذكر عن صديق الأمة -رضي الله عنه-، وما حدث عندما جيء له بطعام شك في أمره، فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ-رضي الله عنه-، قَالَ: " كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنه-، مَمْلُوكٌ يَغُلُّ عَلَيْهِ فَأَتَاهُ لَيْلَةً بِطَعَامٍ فَتَنَاوَلَ مِنْهُ لُقْمَةً، فَقَالَ لَهُ الْمَمْلُوكُ: مَا لَكَ كُنْتَ تَسْأَلُنِي كُلَّ لَيْلَةٍ وَلَمْ تَسْأَلْنِي اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: حَمَلَنِي عَلَى ذَلِكَ الْجُوعُ، مِنْ أَيْنَ جِئْتَ بِهَذَا؟ قَالَ: مَرَرْتُ بِقَوْمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَرَقِيتُ لَهُمْ فَوَعَدُونِي، فَلَمَّا أَنْ كَانَ الْيَوْمُ مَرَرْتُ بِهِمْ فَإِذَا عُرْسٌ لَهُمْ فَأَعْطَوْنِي، قَالَ: إِنْ كِدْتَ أَنْ تُهْلِكَنِي، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي حَلْقِهِ فَجَعَلَ يَتَقَيَّأُ، وَجَعَلَتْ لَا تَخْرُجُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَذِهِ لَا تَخْرُجُ إِلَّا بِالْمَاءِ، فَدَعَا بِطَسْتٍ مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَ يَشْرَبُ وَيَتَقَيَّأُ حَتَّى رَمَى بِهَا، فَقِيلَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ كُلُّ هَذَا مِنْ أَجْلِ هَذِهِ اللُّقْمَةِ، قَالَ: لَوْ لَمْ تَخْرُجْ إِلَّا مَعَ نَفْسِي لَأَخْرَجْتُهَا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ"، فَخَشِيتُ أَنْ يَنْبُتُ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِي مِنْ هَذِهِ اللُّقْمَةِ"(21).

-وصنف آخر وما أكثره في زماننا ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا يعرِف إلا الشغب والضجيج والطبل والمزمار، فتراه مستمعًا للأغاني الساقطة متمسكاً بها ومصرًّا على سماعها وملازمًا لها، ثم هو في مشاهدته لا يشاهد إلا كلَّ ساقط نتنٍ خبيث، أضاع عمره وأفناه وأوبق دينه ودنياه فلا سمعًا حفِظ ولا بصرًا غض، وكأنه لم يسمع قول الله عز وجل في تحريم الغناء بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 6، 7]

وكأنه لم يسمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذم الملاهي والمعازف والغناء فقال -صلى الله عليه وسلم-: " لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ"(22).

تلك هي بعض الصور لفريقين من الناس فمنهم شقي وسعيد، مُمتثل لأمر ربه ومُعرض، غاد في إعتاق نفسه بالطاعة، ومنهم موبق لنفسه تاركًا لها تسير في اللهو والعصيان دون لجام ولا قيد يقيدها.

ومن أيقن أنه ملاق ربه تبارك وتعالى وأنه مُقبل عليه كي يحاسبه على ما قدَّم من العمل، فلابد له ويلزمه أن يقدِّم ويزيد من الصالحات لينجو من عذاب الله يوم القيامة وحتى ينال التوفيق والتيسير من الله.

اعتقــوا أنفسكم

ها نحن قد عرفنا الطريق وتعرفنا على أصناف الناس في مسيرهم إلى الله، فاختر لنفسك ما تشاء فكل واحد منا لا محالة أحد غاديين إما معتق لنفسه أو موبق لها، ومن أراد أن يعتق نفسه من عذاب الله يوم القيامة فليزمها التوبة والعمل الصالح، فلا يزال باب التوبة مفتوحًا، فمهما أسرف المرء على نفسه من الذنوب ثم ندم ورجع وأناب إلى ربه فإن الله برحمته ومنِّه وكرمه يقبله فهو جل جلاله التواب الرحيم، قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 53 - 55]

وقال جل شأنه مذكرًا عباده بحسن التوبة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [التحريم: 8]

ومن الأسباب التي تساعد على ثبات العبد على الطاعات:

1-الدعاء:

وهو من أعظم أسباب التوفيق للطاعة، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الدعاء بالثبات على دينه، عن شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: قُلْتُ لأُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها-: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا لأَكْثَرِ دُعَائِكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ؟ قَالَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ. فَتَلاَ مُعَاذٌ {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}(23).

2-صحبة الصالحين:

وهي من أنفع أسباب الثبات فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الرجُلُ على دِينِ خَليلِهِ، فلينظر أحدُكُم من يُخالِلُ"(24).

وذكر بعض الحنفية في كتاب شَرَعَهُ آداباً للمؤاخاة والصحبة فقال منها: أن لا يؤاخي ويصادق إلا من يثق به وبأمانته ويعرف صلاحه وتقواه فإن المرء يكون مع من أحب، ويحشر على دين خليله قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل

3-الزيادة من العمل الصالح:

ومن ءامن بالله وعمل صالحًا ثبَّته الله عز وجل على الدين وهداه إلى صراطه المستقيم قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]

قال قتادة: أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، { وَفِي الآخِرَةِ } في القبر(25).

نسأل الله عز وجل أن يثبتنا على دينه ويجعلنا من حزبه المفلحين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

---

(1) أخرجه البخاري(3158) وهو لفظه، ومسلم(2961).

(2) ديوان علي بن أبي طالب (ص: 176).

(3) أخرجه مسلم(223) عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ-رضي الله عنه-.

(4) تفسير ابن كثير(8/ 283).

(5) انظر مدارج السالكين لابن القيم(1/ 118).

(6) أخرجه أبو داود في سننه(4299)، وصححه الألباني في المشكاة(5369).

(7) انظر تفسير ابن كثير(1/ 720).

(8) تفسير الطبري(6/ 42).

(9) أخرجه البخاري(7512).

(10) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم(1/ 289).

(11) مختصر قيام الليل لابن نصر المروزي (ص: 144).

(12) أخرجه مسلم(223) عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ-رضي الله عنه-.

(13) أخرجه أحمد(14481)، وأبو يعلى في مسنده(1999) وهذا لفظه، وابن حبان في صحيحه(1723)، والبيهقي في الشعب(8952)، والطبراني في الكبير(318).

(14) شرح النووي على مسلم (3/ 102).

(15) طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم(ص: 177).

(16) أخرجه البخاري(6477)، ومسلم(7673) وهذا لفظه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-.

(17) شرح النووي على مسلم (9/ 373).

(18) أخرجه أبوداود(3116)، عن معاذِ بن جبل-رضي الله عنه-، وصححه الألباني في الجامع الصغير(11425).

(19) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي(8/ 192).

(20) أخرجه مسلم(2393)، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-.

(21) حلية الأولياء لأبي نعيم(1/ 31).

(22) أخرجه البخاري في صحيحه تعليقًا(5590)، والبيهقي في الكبرى(20988)، وابن حبان في صحيحه (6754). عن أَبٍي مَالِكٍ الأَشْعَرِيّ-رضي الله عنه-.

(23) أخرجه الترمذي(3522)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي(2792).

(24) أخرجه أبو داود(4833)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (3545).

(25) تفسير ابن كثير(4/ 502).

عدد المشاهدات 4364