الخطب : فضائل شهر الله المحرم وأحكامه (سلسلة الواعظ عدد المحرم 1438هـ)

2016-10-05

اللجنة العلمية

فضائل شهر الله المحرم وأحكامه(1)

فضائل شهر الله المحرم وأحكامه

من نعم الله تعالى على عباده، أن يوالي مواسم الخيرات عليهم ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، فما أن انقضى موسم الحج المبارك، إلا وتبعه شهر كريم هو شهر الله المحرم، فلعلنا نشير إلى شيء من فضائله وأحكامه.

مَا الْحِكْمَة فِي تسْميَة الْمُحَرَّم شَهْر اللَّه وَالشهور كُلّهَا لِلَّهِ؟!

1- قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفَضْل الْعِرَاقِيّ -رحمه الله-: يَحْتَمِل أَنْ يُقَال: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ الْأَشْهُر الْحُرُم الَّتِي حَرَّمَ اللَّه فِيهَا الْقِتَال، وَكَانَ أَوَّل شُهُور السَّنَة أُضِيفَ إِلَيْهِ إِضَافَة تَخْصِيص. (2)

2 - قَالَ أَبُو عبيد: إِنَّمَا خصّه بقوله: ((الْمحرم)) دون بَاقِي الْمُحرمَات لِأَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفا بذلك الاسم. (3)

3 - وقال ابن رجب -رحمه الله-: وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته.

وفي ذلك إشارة إلى أن تحريمه إلى الله عز وجل ليس لأحد تبديله كما كانت الجاهلية يحلونه ويحرمون مكانه صفرا فأشار إلى شهر الله الذي حرمه فليس لأحد من خلقه تبديل ذلك وتغييره. (4)

فضائل شهر الله المحرم:

1 - من جملة الأشهر الحرم، قال تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]

وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ، مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى، وَشَعْبَانَ )). (5)

قال القرطبي -رحمه الله-: خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ بِالذِّكْرِ، وَنَهَى عَنِ الظُّلْمِ فِيهَا تَشْرِيفًا لَهَا وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي كُلِّ الزَّمَانِ. (6)

مسألة: ابتداء القتال في الأشهر الحرم

قال ابن كثير -رحمه الله-: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيمِ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ: هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ مُحْكَمٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا -وَهُوَ الْأَشْهَرُ: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هَاهُنَا: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} وَأَمَرَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَظَاهِرُ السِّيَاقِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ أَمْرًا عَامًّا، فَلَوْ كان محرما ما فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَأَوْشَكَ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِانْسِلَاخِهَا؛ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ -وَهُوَ ذُو الْقَعْدَةِ -كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ فِي شَوَّالَ، فَلَمَّا كَسَرَهُمْ وَاسْتَفَاءَ أَمْوَالَهُمْ، وَرَجَعَ فَلُّهم، فَلَجَئُوا إِلَى الطَّائِفِ -عَمد إِلَى الطَّائِفِ فَحَاصَرَهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَفْتَتِحْهَا فَثَبَتَ أَنَّهُ حَاصَرَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّ ابْتِدَاءَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَأَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ تَحْرِيمَ الْحَرَامِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [الْآيَةَ]

وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَذِنَ للمؤمنين بقتال الْمُشْرِكِينَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِذَا كَانَتِ الْبُدَاءَةُ مِنْهُمْ.(7)

2- نسبَه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى الله تعالى لشرفه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ)).(8)

قَالَ أَبُو عبيد: إِنَّمَا نسبه إِلَى الله عز وَجل - والشهور كلهَا لَهُ - لتشريفه وتعظيمه، وكل مُعظم ينْسب إِلَيْهِ. (9)

3- صيامه أفضل الصيام بعد صيام الفريضة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ )). (10)

قال النووي -رحمه الله-: وفيه تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ الشُّهُورِ لِلصَّوْمِ. أي بعد رمضان. (11)

مسألة: أفضلُ الصومِ بعدَ رمضان شهر محرم؛ فكيفَ أكثرَ رسول الله من الصيامِ في شعبانَ دون محرم؟

أجيبَ بعدَّة احتمالاتٍ، منها:

(1) أنَّ رسول الله لم يعلم بفضلِهِ إلاَّ آخر حياتهِ.

(2) أنَّ رسول الله كانتْ الأعذار من سفرٍ ومرضٍ تعترضه في هذا الشهر.

(3) أن صيام شعبان من قبيل صوم النافلة قبل الفرض فهو أشبه بالرواتب؛ وصيام محرم من قبيل التطوع المطلق. (12)

4 فيه يوم عاشوراء

ويوم عاشوراء له فضل عظيم وحرمة قديمة، فقد كان موسى عليه السلام يصومه لفضله؛ بل كان أهل الكتاب يصومونه، بل حتى قريش كانت تصومه في الجاهلية، وقد وردت عدة أحاديث عن فضل عاشوراء وصيامه، منها:

عن أبي قتادة -رضي الله عنه- أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صيام يوم عاشوراء، فقال: ((صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ)). (13)

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- المَدِينَةَ فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: (( مَا هَذَا؟ ))، قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: (( فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ ))، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. (14)

وعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ صَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ. (15)

تحديد يوم عاشوراء

قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ عَاشُورَاءَ هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ مُقْتَضَى الِاشْتِقَاقِ وَالتَّسْمِيَةِ. (16)

قال النووي -رحمه الله-: ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إِلَى أَنَّ عَاشُورَاءَ هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنَ الْمُحَرَّمِ وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَخَلَائِقُ وَهَذَا ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ وَمُقْتَضَى اللَّفْظِ،. . . وحديث ابن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَصُومُ عَاشُورَاءَ فَذَكَرُوا أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى تَصُومُهُ فَقَالَ إِنَّهُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ يَصُومُ التَّاسِعَ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَصُومُهُ لَيْسَ هُوَ التَّاسِعُ فَتَعَيَّنَ كَوْنُهُ الْعَاشِرَ. (17)

وَقِيلَ هُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ:

ودليلهم: ما ورد عَنِ الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَجِ، قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ رِدَاءَهُ فِي زَمْزَمَ، فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ، وَأَصْبِحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا، قُلْتُ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصُومُهُ قَالَ: نَعَمْ.(18)

قال النووي -رحمه الله-: هذا تصريح من ابن عَبَّاسٍ بِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ عَاشُورَاءَ هُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنَ الْمُحَرَّمٍ وَيَتَأَوَّلُهُ عَلَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ إِظْمَاءِ الْإِبِلِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْيَوْمَ الْخَامِسَ مِنْ أَيَّامِ الْوِرْدِ رَبْعًا وَكَذَا بَاقِي الْأَيَّامِ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ فَيَكُونُ التَّاسِعُ عَشْرًا. (19)

الحكمة في صيام اليوم التاسع، فقد نقل النووي -رحمه الله- عن العلماء في ذلك عدة وجوه:

أحدها: أن المراد من مخالفة اليهود في اقتصارهم على العاشر.

الثاني: أن المراد به وصل يوم عاشوراء بصوم، كما نهى أن يصام يوم الجمعة وحده.

والأول أقوى وهو مخالفة اليهود كما رجحه الحافظ في الفتح. (20)

بدع محدَثة في (شهر الله المحرم)

أكرم الله سبحانه وتعالى الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- بالشهادة، وذلك سنة 61 هـ في شهر محرم يوم عاشوراء، بكربلاء من أرض العراق، وله من العمر ثمان وخمسون سنة.(21)

وكان هذا من المصائب العظيمة على الأمة كما قال ابن تيمية -رحمه الله-: وَكَانَ قَتْلُهُ -رضي الله عنه- مِنْ الْمَصَائِبِ الْعَظِيمَةِ فَإِنَّ قَتْلَ الْحُسَيْنِ، وَقَتْلَ عُثْمَانَ قَبْلَهُ: كَانَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْفِتَنِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَقَتَلَتُهُمَا مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ. (22)

ولقد ضل في يوم عاشوراء فرقتان:

الفرقة الأولى الروافض: وهؤلاء يجعلونه مأتماً يضربون فيه الخدود ويشقون الجيوب، ويدعون بدعوى الجاهلية، ويصل بهم الحال إلى ضرب أنفسهم ضرباً شديداً، بل بعضهم يجرح رأسه بسيف ونحوه حتى تسيل دمائهم، ويدعون أن يفعلون ذلك حزناً على الحسين رضي الله عنه، وأنهم شيعته المحبون له، وتنقل ذلك الفضائيات، وكأنَّ هؤلاء هم المحبون لآل البيت، وغيرهم ممن لا يعمل عملهم غير محب لآل البيت، وهذا غير صحيح.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وَصَارَ الشَّيْطَانُ بِسَبَبِ قَتْلِ الْحُسَيْنِ -رضي الله عنه- يُحْدِثُ لِلنَّاسِ بِدْعَتَيْنِ: بِدْعَةَ الْحُزْنِ وَالنَّوْحِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، مِنَ اللَّطْمِ وَالصُّرَاخِ وَالْبُكَاءِ وَالْعَطَشِ وَإِنْشَادِ الْمَرَاثِي، وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ سَبِّ السَّلَفِ وَلَعْنَتِهِمْ، وَإِدْخَالِ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مَعَ ذَوِي الذُّنُوبِ، حَتَّى يُسَبَّ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، وَتُقْرَأَ أَخْبَارُ مَصْرَعِهِ الَّتِي كَثِيرٌ مِنْهَا كَذِبٌ. وَكَانَ قَصْدُ مَنْ سَنَّ ذَلِكَ فَتْحَ بَابِ الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ ; فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ إِحْدَاثُ الْجَزَعِ وَالنِّيَاحَةِ لِلْمَصَائِبِ الْقَدِيمَةِ مِنْ أَعْظَمِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. (23)

الفرقة الثانية: النواصب، وهؤلاء يفرحون ويحتفلون في يوم عاشوراء بالاغتسال، والكحل، والخضاب ونحوه، مما يعد من مظاهر الفرح والسرور، يعارضون به شعار أولئك القوم الذين يجعلونه مأتماً، فعارضوا باطلاً بباطل، وردوا بدعة ببدعة.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: وهؤلاء يَسْتَحِبُّونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ الِاكْتِحَالَ وَالِاغْتِسَالَ وَالتَّوْسِعَةَ عَلَى الْعِيَالِ وَإِحْدَاثَ أَطْعِمَةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ، وَهَذِهِ بِدْعَةٌ أَصْلُهَا مِنَ الْمُتَعَصِّبِينَ بِالْبَاطِلِ عَلَى الْحُسَيْنِ -رضي الله عنه-. (24)

(3) بدعة إحياءِ اليوم الأول من المحرم، قال الشيخ بكر بن أبو زيد -رحمه الله-: لا يثبت في الشرع شيء من ذكر أو دعاء لأول العام وهو أول يوم أو ليلة شهر محرّم، وقد أحدث الناس فيه من الدعاء والذكر والذكريات وتبادل التهاني وصوم أول يوم من السنة وإحياء ليلة أول يوم من محرم بالصلاة والذكر والدعاء وصوم آخر يوم من السنة إلى غير ذلك مما لا دليل عليه. اهـ.

(4) بدعةُ إحياء أيامٍ محدَّدةٍ بأعمال معينة، كتخصيصٍ ركعاتٍ أو أدعيةٍ أو صيامٍ على نمطٍ مرسومٍ، وهذه بدعةٌ رافضيةٌ لا أصلَ لها في الشريعة

عاشوراء وقفات وفوائد

- حين يعظم الكفار بعض الشعائر

في حديث عائشة -رضي الله عنها- أن قريشاً كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية، ولا يدل ذلك على فضلهم، لأن ميزان التفضيل هو التزام الدين قلباً وقالباً عن رضىً وقبول كما أراده الله، لا تجزئة الدين، والإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض، ولا التعلق بمجرد شعائر خالية من اليقين والإيمان الخالص.

- مخالفة أهل الكتاب من أعظم مقاصد الشريعة

في ترك إفراد عاشوراء بالصوم درس عظيم في أن مخالفة الكفار من أبرز مظاهر تحقيق البراء من الكافرين الذي لا يتم الإيمان إلا به، وقد شدد الشارع على المتشبهين بهم، حتى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ )). (25)

وقد ذكر ابن تيمية -رحمه الله- أن هذا أقل أحواله التحريم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم. (26)

- عبادة الله أبلغ الشكر

كانت نجاة موسى عليه السلام وقومه من فرعون. . منَّة كبرى أعقبها موسى بصيام ذلك اليوم، فكان بذلك وغيره من العبادات شاكرًا لله تعالى؛ إذ العمل الصالح شكر لله كبير، قال ربنا عز وجل: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]

وأساس الشكر مبني على خمس قواعد: خُضُوعُ الشَّاكِرِ لِلْمَشْكُورِ. وَحُبُّهُ لَهُ. وَاعْتِرَافُهُ بِنِعْمَتِهِ. وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بِهَا. وَأَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهَا فِيمَا يَكْرَهُ. (27)

والبشر مهما بالغوا في الشكر قاصرون عن الوفاء، فكيف إذا قصّروا وغفلوا عن الشكر من الأساس؟!.

وأمر العبادة قائم على الاتباع، فلا يجوز إحداث عبادات لم تشرع بحجة الشكر، كما لا يجوز تخصيص عاشوراء ولا غيره من الأزمان الفاضلة بعبادات لم ينص عليها الشارع في ذلك الزمن.

- في التعويد على الخير تثبيت عليه

بلغ بالصحابة -رضي الله عنهم- من الحرص على تعويد صغارهم الصيام أن احتالوا عليهم في تمرينهم عليه حتى يُتِمُّوه، فصنعوا لهم اللعب يتلهون بها عن طلب الطعام، كما تقدم في حديث الربيِّع؛ وذلك لكون تعويد الصغير على فعل الخير مكمن قوة في استقامته عليه في الكبر؛ لأنه يصير هيئة راسخة في نفسه تعسر زعزعتها. (28)

تذكرة: قال الحافظُ ابن حجر -رحمه الله-: أَنْشَدَنَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ الْحُسَيْنِ لِنَفْسِهِ

اسْتَفْتِحِ الْعَامَ بِالصِّيَامِ. . . لِلَّهِ فِي شَهْرِ الْحَرَامِ

وَعَاشِرَ الْمُحَرَّمِ صُمْ يُكَفِّرْ. . . عَنْكَ ذُنُوبًا مَضَتْ لِعَامِ

وَارْجِعْ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَرِيبٍ. . . فَإِنَّهُ غَافِر الأثام

واغتنم الْعُمْرَ فَإِنَّهُ ضَيْفٌ. . . لَا مَطْمَعَ مِنْهُ فِي الْمَقَامِ

وَلَا تَكُنْ آيِسًا قَنُوطًا. . . فَالْعَفْوُ مِنْ شِيمَةِ الْكِرَام(29)

التأريخ الهجري

لم يكنِ التَّاريخُ السَّنويُّ معمولًا به في أوَّل الإسلام، حتى كانت خلافةُ عمرَ بنِ الخَطَّاب -رضي الله عنه- فـ: في السَّنةِ الثَّالثةِ - أو الرَّابعةِ- من خلافتِه -رضي الله عنه-: كتب إليه أبو موسى الأشعريُّ -رضي الله عنه- أنه يأتينا منكَ كتبٌ ليس لها تاريخٌ! ؟

فجمع عمرُ الصَّحابةَ -رضي الله عنهم- فاستشارهم.

فيُقال: إن بعضَهم قال: أرِّخوا كما تؤرِّخُ الفُرسُ بمُلوكِها، كلَّما هلك ملِكٌ أرَّخوا بولايةِ مَن بعدَه. فكرهَ الصَّحابةُ ذلك.

فقال بعضُهم: أرِّخوا بتاريخ الرُّومِ. فكرِهوا ذلك -أيضًا-.

فقال بعضُهم: أرِّخوا مِن مَولد النَّبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال آخرون: مِن مبعثِه. وقال آخرون: من مهاجرِه.

فقال عمر: الهجرةُ فرَّقت بين الحق والباطل؛ فأرِّخوا بها.

فأرَّخوا من الهجرةِ، واتَّفقوا على ذلك.

ثم تشاوروا من أيِّ شهرٍ يكون ابتداءُ السَّنة.

فقال بعضُهم: من رمضان؛ لأنَّه الشَّهر الذي أنزلَ فيه القرآنُ.

وقال بعضُهم: من ربيعٍ الأوَّل؛ لأنه الشَّهر الذي قدِم فيه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-. مهاجرًا.

واختار عمرُ وعثمانُ وعليٌّ أن يكونَ من المحرَّمِ؛ لأنَّه شهرٌ حرامٌ يلي شهر ذي الحجةِ الذي يؤدي المسلمون فيه حجَّهم الذي به تمامُ أركانِ دينِهم، والذي كانت فيه بيعةُ الأنصار للنبي -صلى الله عليه وسلم- والعزيمةُ على الهجرةِ.

فكان ابتداءُ السَّنةِ الإسلاميَّة الهجريَّة من الشهرِ المحرَّم الحرام. (30)

والحمد لله رب العالمين

---

(1) من أراد زيادة في هذا الباب فليراجع العدد الأول من كتاب الواعظ لعام 1437هـ

(2) حاشية السيوطي على سنن النسائي (3/ 206)

(3) كشف المشكل (3/ 597)

(4) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 36)

(5) رواه البخاري (3197) ومسلم (1679)

(6) تفسير القرطبي (8/ 135)

(7) تفسير ابن كثير باختصار (4/ 149)

(8) رواه مسلم (1163)

(9) كشف المشكل (3/ 597)

(10) رواه مسلم (1163)

(11) شرح النووي على مسلم (8/ 55)

(12) راجع شرح النووي على مسلم (8/ 55)

(13) رواه مسلم (1162)

(14) رواه البخاري (2004) ومسلم (1130)

(15) رواه البخاري (2002) ومسلم (1125)

(16) فتح الباري لابن حجر (4/ 245)

(17) شرح النووي على مسلم (8/ 12)

(18) رواه مسلم (1133)

(19) شرح النووي على مسلم (8/ 12)

(20) راجع شرح النووي على مسلم (8/ 13) وفتح الباري لابن حجر (4/ 245)

(21) راجع البداية والنهاية (11/ 569).

(22) مجموع الفتاوى (3/ 411)

(23) منهاج السنة النبوية (4/ 554)

(24) منهاج السنة النبوية (4/ 555)

(25) رواه أبو داود (4031) من حديث ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- وصححه الألباني في صحيح الجامع(2/ 1059)

(26) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 270)

(27) مدارج السالكين (2/ 234)

(28) مختصر من درس للشيخ عبد اللطيف بن محمد الحسن. مجلة البيان (149/ 8)

(29) الأمالي المطلقة (ص: 23)

(30) الضياء اللامع من الخُطَب الجوامع للعلامة ابن عثيمين -رحمهُ الله- (701).

عدد المشاهدات 4418