خطبة: الاختلاف والتنازع الأسباب والعلاج (سلسلة الواعظ عدد صفر 1437هـ)

2015-11-10

اللجنة العلمية

الاختلاف والتنازع الأسباب والعلاج

الاختلاف والتنازع الأسباب والعلاج

- آثار الاختلاف والتنازع - الأسباب - العلاج

إنّ دين الإسلام حريص على سلامة أمّته وحفظ كيانها ولذلك فهو يطفئ بقوّة بوادر الخلاف والنّزاع، ويهيب بالأفراد كافّة أن يتكاتفوا على إخراج الأمّة من ورطات الشّقاق والنزاع، ولا يخفى على كل مسلم بصير ما تعيشه أمة الإسلام من شتات وفرقة، واختلافات أوجبت عداوة وشقاقاً؛ إذ تجاذبت أهلَها الأهواء، وتشعبت بهم البدع، وتفرقت بهم السبل، فلا عجب أن تراهم بين خصومة مذهبية، وحزبية فكرية، وتبعية غربية أو شرقية. . . وإذا كان المسلمون اليوم يلتمسون الخروج من هذا المأزق فلا سبيل إلاّ بالبحث عن الأسباب التي أودت إلى الاختلاف والنزاع ثم البحث عن وسائل العلاج. (1)

- وقوع الاختلاف أمر قدري ولا يُرفع إلا بالأسباب الشرعية

فقد أخبر الله تعالى أن الاختلاف واقع في هذه الأمة قَدَراً قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } [هود: 118، 119]

قَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ: أَيْ وَلِلِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ. (2) هذا المعنى على أحد التفسيرين.

- الخلاف المذموم هو الممنوع شرعاً

قال ابن القيم -رحمه الله-: ووقوع الاختلاف بين الناس أمرٌ ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغيٌ بعضهم على بعض وعدوانه، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب وكلٌّ من المختلفين قصدُه طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف فإنه أمرٌ لابد منه في النشأة الإنسانية، ولكن إذا كان الأصل واحدا والغاية المطلوبة واحدة والطريق المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف وإن وقع كان اختلافا لا يضر كاختلاف الصحابة. (3)

فالأصل ذم الخلاف وتجنبه، ما دام اختلافاً حقيقياً قد يسبب فرقة ويوقع في تعارض، وهذا ما دلت عليه نصوص الوحيين.

*- آثار الاختلاف والتنازع

فإن التنازع والاختلاف في المجتمع المسلم له آثاره الخطيرة على الأمة، سواء كان هذا التنازع على مستوى الأفراد أو المجتمعات ومن ذلك:

1- أنه سبب للتدابر والتقاطع

عَنْ أَبِي مَسْعُود الأنصاري -رضي الله عنه-، قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ -صلي الله عليه وسلم-،: ( لَا تَخْتَلِفُوا، فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ ). (4)

قال ابن الجوزي -رحمه الله-: أَي أَنكُمْ إِذا اختلفتم بالظواهر عُوقِبْتُمْ باخْتلَاف الْقُلُوب. (5)

2- أنه سبب للفشل وذهاب للقوة

قال تعالى{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]

قال الشنقيطي -رحمه الله-: نَهَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ التَّنَازُعِ، مُبَيِّنًا أَنَّهُ سَبَبُ الْفَشَلِ، وَذَهَابُ الْقُوَّةِ. (6)

قال ابن كثير -رحمه الله-: فَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ائْتَمَرُوا، وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ انْزَجَرُوا، وَلَا يَتَنَازَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَيْضًا فَيَخْتَلِفُوا فَيَكُونَ سَبَبًا لِتَخَاذُلِهِمْ وَفَشَلِهِمْ. {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أَيْ: قُوَّتُكُمْ وَحِدَّتُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْإِقْبَالِ. (7)

وهذا مثال من واقع الصحابة -رضي الله عنهم-، لما اختلف بعضهم في غزوة أُحد وعصوا أمراً واحداً، حدث ما حدث، ليكون ذلك عبرة لمن بعدهم، قال تعالى{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ } [آل عمران: 152]

3-التفرق والاختلاف سبب للذَّم ولحوق الوعيد

قال تعالى { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [آل عمران: 105]

وقال تعالى{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [الأنعام: 159]

وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ -رضي الله عنهما-، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-، قَالَ: (( أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ: ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ )). (8)

4-الاختلاف والتنازع سبب هلاك الأمم وذهاب الدول

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلي الله عليه وسلم-، يَقْرَأُ خِلاَفَهَا، فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ -صلي الله عليه وسلم-، فَأَخْبَرْتُهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الكَرَاهِيَةَ، وَقَالَ: (كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ، وَلاَ تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا). (9)

*- الأسباب التي تؤدي إلى الاختلاف والتنازع:

هناك أسباب تؤدي إلى وقوع الاختلاف والتنازع لابد من معرفتها لنحذرها ونجتنبها منها:

أولا: بغي الخلق بعضهم على بعض وظلمهم لبعضهم

كما قال الله عز وجل: { فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } [الجاثية: 17] فحب العلو في الأرض وتسلط الخلق بعضهم على بعض هو من أعظم أسباب الخلاف، ولذا فقد حذر الرسول -صلي الله عليه وسلم-، منه ومن الوقوع فيه فقال: (لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ). (10)

ثانيا: اتباع الهوى

اتباع الهوى من أكبر الأسباب في ردِّ الحق والتكبر عليه والإقامة على الباطل والتشبث به كما قال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } [الجاثية: 23]

وعَنْ عَلِيّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، قَالَ: إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَتَيْنِ طُولُ الْأَمَلِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى، فَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ. (11)

لذلك كان اتباع الهوى من أعظم أسباب التفرق والتنازع ووقوع العداوة والبغضاء بين الناس.

قَالَ أَبُو الْعَالِيَة -رحمه الله-: إِيَّاكُم وَهَذِه الْأَهْوَاء الَّتِي تلقى بَين النَّاس الْعَدَاوَة والبغضاء. (12)

ثالثا: اتباع وساوس الشيطان

والشيطان عدو لبني آدم كما أخبر الله بذلك بقوله: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] وهو لا يألو جهدًا في الإيقاع بين المسلمين وإلقاء العداوة بينهم

فعَنْ جَابِر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلي الله عليه وسلم-، يَقُولُ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ

يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ). (13)

قال النووي -رحمه الله-: ومعناه أيس أن يعبده أهلُ جزيرة العرب ولكنه سعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن ونحوها. (14)

رابعا: اتباع المتشابه:

فاتباع المتشابه هو منشأ التفرق ووقوع التنازع في الأمة، وما ضلَّت الفرق إلا بسبب اتباع المتشابه وترك المحكم الواضح، وقد حذر الله تعالى هذه الأمة من اتباع المتشابهات، فقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } [آل عمران: 7]

قال الشاطبي -رحمه الله-: وَمَعْنَى الْمُتَشَابِهِ: مَا أُشْكِلَ مَعْنَاهُ، وَلَمْ يُبَيَّنْ مَغْزَاهُ، وَهُوَ مَا يَحْتَاجُ فِي بَيَانِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ إِلَى دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ ظَاهِرَ الْمَعْنَى لِبَادِي الرَّأْيِ. (15) وسبيل أهل الحق: الإيمان بالمتشابه وردُّه إلى المحكم ليبينه، ويزيل اشتباهه.

خامسا - التأويل الباطل للنصوص

فبالتأويل استحلت الأموال والأنفس والفروج وغُيِّر وجهُ الدين عن طريق التأويل الباطني والصوفي والكلامي وغيرها من التأويلات الباطلة.

قال ابن القيم -رحمه الله-: فَأَصْلُ خَرَابِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا إنَّمَا هُوَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِكَلَامِهِ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُرَادُهُ، وَهَلْ اخْتَلَفَتْ الْأُمَمُ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ؟ وَهَلْ وَقَعَتْ فِي الْأُمَّةِ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ أَوْ صَغِيرَةٌ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ؟. ، وَهَلْ أُرِيقَتْ دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي

الْفِتَنِ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ؟. (16)

سادسا -: الجدال والخصومة في الدين.

والمقصود بذلك الجدال المذموم وهو ما كان بغير حجة ولا دليل، أو الجدال لنصرة الباطل والشغب للتمويه على الحق، وقد كان الكفار يفعلونه كثيراً، قال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ} [غافر: 5]

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-،: (مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجَدَلَ)، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-، هَذِهِ الآيَةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}. (17)

وقال عبد الرحمن بْنِ أَبِي لَيْلَى -رحمه الله-: لَا تُمَارِ أَخَاكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَقَالَ: لَا أُمَارِي أَخِي إِمَّا أَنْ أُغْضِبَهُ وَإِمَّا أُكَذِّبَهُ. (18)

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ – -رحمه الله- -: الْمِرَاءُ فِي الْعِلْمِ يُقَسِّي الْقُلُوبَ وَيُوَرِّثُ الضَّغَائِنَ. (19)

سابعا -: التعصب للآراء والمذاهب.

والتعصب الممقوت هو: عدم قبول الحق بعد ظهور دليله.

قال تعالى{ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [المؤمنون: 53]

قال ابن القيم -رحمه الله-: جَعَلُوا التَّعَصُّبَ لِلْمَذَاهِبِ دِيَانَتَهُمْ الَّتِي بِهَا يَدِينُونَ، وَرُؤوسَ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي بِهَا يَتَّجِرُونَ. (20)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلي الله عليه وسلم-، قَالَ: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا). (21)

- الأسباب التي تمنع الاختلاف وتزيله:

1- توحيد مصدر التلقي:

إذا أردنا أن تأتلف قلوبنا ويجتمع شملنا، فلننهل جميعًا من النبع الصافي: كتاب الله وسنة نبيه -صلي الله عليه وسلم-، فأحكام الشرع جاءت لتؤلف القلوب، وتوحد الصف، قال تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام: 153]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-،: (( إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ )). (22)

وعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-،: (إِنِّي قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ). (23)

2- الرجوع عند التنازع والاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

فالرجوع عند التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من أنجع السبل في الوقاية من داء الاختلاف،

كما قال الله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]

وقال تعالى{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]

وفي حديث الْعِرْبَاض بن سارية -رضي الله عنه-: أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ). (24)

3- لزوم جماعة المسلمين ونبذ الفرقة

قال تعالى آمراً عباده المؤمنين { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]

وعَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ -رضي الله عنه-، بِالجَابِيَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-، فِينَا فَقَالَ: (. . . . عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَةَ. . . ). (25)

ما المقصود بالجماعة؟

قال أبو القاسم شهاب الدين المعروف بأبي شامة: وَحَيْثُ جَاءَ الْأَمر بِلُزُوم الْجَمَاعَة فَالْمُرَاد بِهِ لُزُوم الْحق واتباعة وإن كَانَ المتمسك بِالْحَقِّ قَلِيلا والمخالف كثيرا لِأَن الْحق الَّذِي كَانَت عَلَيْهِ الْجَمَاعَة الأولى من النَّبِي -صلي الله عليه وسلم-، وَأَصْحَابه -رضي الله عنهم-، وَلَا نظر الى كَثْرَة أهل الْبَاطِل بعدهمْ. (26)

قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيُّ -رحمه الله-: قال لي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، أَتَدْرِي مَا الْجَمَاعَةُ؟ قُلْت: لَا، قَالَ: إنَّ جُمْهُورَ الْجَمَاعَةِ هُمْ الَّذِينَ فَارَقُوا الْجَمَاعَةَ، الْجَمَاعَةُ مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَإِنْ كُنْت وَحْدَك.

4- حسن الظن بالمخالف الذي يبتغي الحق:

فالشكوك والقدح في نيات الآخرين كفيلة بإيجاد جفوة وفجوة بعيدة لا يمكن التلاقي فيها، لكن الواجب على المسلم أن يحسن الظّنّ بكلام أخيه المسلم، وأن يحمل العبارة المحتملة محملا حسنا.

عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ -رحمه الله-، قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ بَعْضُ إِخْوَانِي مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-،: أَنْضَعْ أَمَرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ مَا يَغْلِبُكَ، فَلَا تَظُنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ شَرًّا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا مِنَ الْخَيْرِ مَحْمَلًا. (17) فهكذا يجب أن نحمل آراء الآخرين على المحمل الحسن ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، عندها سنجد أن كثيراً من الاختلافات قد زالت.

5- التثبت قبل إطلاق الأحكام:

وذلك امتثالاً لقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]

قال الحسن البصريّ -رحمه الله-: المؤمن وقّاف حتّى يتبيّن. (28)

ومن أصول التثبت في الأخبار هو النظر في عدالة المخبر، وضبطه لما ينقل، والتبين ممن أخذ هذا الخبر؛ فقد يكون أخذه من كاذب، ثم النظر في هذا الخبر قبل الحكم على الأمر؛ فقد يحتمل أوجهاً متعددة فيحمل على أحسنها، والواقع أنَّ كثيراً من الناس يحكمون على الآخرين من خلال ما يسمعونه عنهم من غير أن يكلفوا أنفسهم السؤال والتحري عن حقيقة ما سمعوا؛ وقد يكون ما سمعوه هو من اختلاق بعض المغرضين القاصدين للفرقة والنزاع بين المسلمين.

6- الإخلاص في تحري الحق:

فالتجرد للحق، والإخلاص لله تعالى، يزيل عقبات الاختلاف؛ ولكن الأمر يحتاج إلى مجاهدة النفس في ذلك، وإلزامها الحق بقوة.

قال الشَّافِعِيّ -رحمه الله-: مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا أَحْبَبْتُ أَنْ يُوَفَّقَ وَيُسَدَّدَ وَيُعَانَ، وَيَكُونَ عَلَيْهِ رِعَايَةٌ مِنَ اللَّهِ وَحِفْظٌ. وَمَا نَاظَرْتُ أَحَدًا إِلَّا وَلَمْ أُبَالِ بَيَّنَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِي أَوْ لِسَانِهِ. (29) وقَالَ أيضا ً: مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يُخْطِئَ. (30)

----

(1)مجلة البيان205/ 5

(2)تفسير القرطبي9/ 115

(3)الصواعق المرسلة2/ 519

(4)رواه مسلم432

(5)كشف المشكل2/ 205

(6)أضواء البيان2/ 102

(7)تفسير ابن كثير4/ 72

(8)رواه أبو داود (4597) وصححه الألباني في صحيح الجامع1/ 516

(9)رواه البخاري3476

(10)رواه البخاري (121) ومسلم (65) من حديث جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-.

(11)الزهد لأحمد بن حنبل (ص: 107)

(12)الاستقامة1/ 254

(13)رواه مسلم2812

(14)شرح النووي على مسلم17/ 156

(15)الاعتصام للشاطبي ت الهلالي2/ 736

(16)إعلام الموقعين(4/ 192

(17)رواه الترمذي (3253) وحسنه الألباني في صحيح الجامع(2/ 984

(18)الزهد لهناد بن السري2/ 557

(19)الآداب الشرعية1/ 202

(20)إعلام الموقعين1/ 6

(21)رواه مسلم 2563

(22)رواه الحاكم في المستدرك (1/ 172) وصححه الألباني في صحيح الجامع1/ 566

(23)رواه ابن أبي عاصم في السنة (49) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب1/ 13

(24)رواه أبو داود (4607) وصححه الألباني في صحيح الجامع 1/ 499

(25)رواه الترمذي (2165) وصححه الألباني في صحيح الجامع 1/ 499

(26)الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص: 22)

(27)التوبيخ والتنبيه لأبي الشيخ الأصبهاني (ص: 76)

(28)مجموع الفتاوى 10/ 382

(29)حلية الأولياء 9/ 118

(30)آداب الشافعي ومناقبه (ص: 68)

عدد المشاهدات 9705