خطبة: دروس وعبر من هجرة سيد البشر (سلسلة الواعظ عدد المحرم 1437هـ)

2015-10-25

اللجنة العلمية

دروسوعبرمنهجرةسيدالبشر -صلى الله عليه وسلم-

دروس وعبر من هجرة سيد البشر -صلى الله عليه وسلم-

إنَّ حادث الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة من أعظم الأحداث التي حولت مجرى التاريخ الإسلامي، وغيرت مساره تماماً، فحادث الهجرة بمثابة نقطة فارقة من خلالها قامت الدولة، وصار لها شوكة وقوة واقتصاد، فالهجرة تُعدُّ انتقالاً من مرحلة الاستضعاف والقلة إلى مرحلة العزة والكثرة، كما قال الله عز وجل في معرض الامتنان على نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وعباده المؤمنين: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26].

والناظر في الهجرة النبوية يلحظ فيها حكماً باهرة، ويستفيد دروساً عظيمة، ويستخلص فوائد جمة. فمن ذلك على سبيل الإجمال ما يلي:

1 ـ الهجرة من سنن الرسل الكرام:

إن الهجرة في سبيل الله سنة قديمة، ولم تكن هجرة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، بدعاً في حياة الرسل لنصرة عقائدهم، فلئن كان قد هاجر -صلى الله عليه وسلم-، من وطنه ومسقط رأسه من أجل الدعوة حفاظاً عليها وإيجاد بيئة خصبة تتقبلها وتستجيب لها وتذود عنها، فقد هاجر عدد من إخوانه من الأنبياء قبله من أوطانهم لنفس الأسباب التي دعت نبينا للهجرة.

وذلك أن بقاء الدعوة في أرض قاحلة لا يخدمها بل يعوق مسارها ويشل حركتها، وقد يعرضها للانكماش داخل أضيق الدوائر، وقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من هجرات الرسل وأتباعهم من الأمم الماضية لتبدو لنا في وضوح سنة من سنن الله في شأن الدعوات يأخذ بها كل مؤمن من بعدهم إذا حيل بينه وبين إيمانه وعزته، واستخف بكيانه ووجوده واعتدي على مروءته وكرامته.

هذا إبراهيم عليه السلام بعدما كذبه قومه وآذوه حتى وصل بهم الأمر أن طرحوه في النار فنجاه الله منها، { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 26]

2 ـ الصراع بين الحق والباطل صراع قديم ومستمر:

قال تعالى{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } [إبراهيم: 13، 14]

وفي حديث عائشة في قصة بدء الوحي وفيه: فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ، فقص عليه قصته فقال له ورقة: لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-،: ((أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ))، قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. (1)

وهو سنة إلهية نافذة، قال عز وجل: ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40).

ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة قال تعالى: ( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة: الآية21).

3ـ تنوع أساليب خصوم الدعوة والدعاة في الصدّ عن سبيل الله.

سواء عن طريق الحبس أو القتل أو النفي والإخراج من الأرض، وعلى الداعية أن يلجأ إلى ربه وأن يثق به ويتوكل عليه ويعلم أن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله، كما قال عز وجل: ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (سورة الأنفال: الآية 30).

ومن مكر أهل الباطل وخصوم الدعوة استخدام سلاح المال لإغراء النفوس الضعيفة للقضاء على الدعوة والدعاة ولذلك رصدوا مائة ناقة لمن يأتي بأحد المهاجرين حياً أو ميتاً، فتحرك الطامعون ومنهم سراقة، الذي عاد بعد هذه المغامرة الخاسرة مادياً بأوفر ربح وأطيب رزق، وهو رزق الإيمان، وأخذ يعمي الطريق على الطامعين الآخرين الذين اجتهدوا في الطلب، وهكذا يرد الله عن أوليائه والدعاة، قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) (الأنفال: الآية 36).

4 - ضرورة الجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله:

ويتجلى ذلك من خلال استبقاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، لعلي وأبي بكر -رضي الله عنهما-؛ معه فعليّ رضي الله عنه بات في فراش النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر -رضي الله عنه-، صحبه في الرحلة. ويتجلى كذلك في

1- استعانته -صلى الله عليه وسلم-، بعبدالله بن أريقط الليثي وكان خبيراً ماهراً بالطريق.

2- ويتجلى كذلك في كتم أسرار مسيره إلا من لهم صلة ماسّة، ومع ذلك فلم يتوسع في اطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم، ومع أخذه بتلك الأسباب وغيرها لم يكن ملتفتاً إليها بل كان قلبه مطوياً على التوكل على الله عز وجل.

5 ـ أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن مَنْ خانك

كانت أمانات المشركين عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مع محاربتهم له وتصميمهم على قتله وفي هذا دليل باهر على تناقضهم العجيب الذي كانوا واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويزعمون أنه ساحر أو مجنون أو كذاب لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير منه أمانة وصدقاً، فكانوا لا يضعون حوائجهم ولا أموالهم التي يخافون عليها إلا عنده! وهذا يدل على أن تكذيبهم له -صلى الله عليه وسلم-، لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه، وإنما بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق الذي جاء به، وخوفاً على زعامتهم وطغيانهم، وصدق الله إذ يقول: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) (سورة الأنعام: الآية33).

وفي أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لعلي -رضي الله عنه-، بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة، رغم هذه الظروف الشديدة التي كان من المفروض أن يكتنفها الاضطراب، بحيث لا يتجه التفكير إلا إلى إنجاح خطة هجرته فقط، رغم ذلك فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ما كان لينسى أو ينشغل عن رد الأمانات إلى أهلها، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلاً عن غيره.

6 ـ اليد العليا في الدعوة خير من اليد السفلى:

لم يقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أن يركب الراحلة حتى أخذها بثمنها من أبي بكر -رضي الله عنه-، واستقر الثمن ديناً بذمته، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِي عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، إِلَّا يَأْتِي فِيهِ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ، فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِي الخُرُوجِ إِلَى المَدِينَةِ، لَمْ يَرُعْنَا إِلَّا وَقَدْ أَتَانَا ظُهْرًا، فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: مَا جَاءَنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: ((أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ))، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ، يَعْنِي عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ، قَالَ: ((أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الخُرُوجِ)). قَالَ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ((الصُّحْبَةَ))، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عِنْدِي نَاقَتَيْنِ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ، فَخُذْ إِحْدَاهُمَا، قَالَ: ((قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ)). (2)

وهذا درس واضح بأن حملة الدعوة ما ينبغي أن يكونوا عالة على أحد في وقت من الأوقات، فهم مصدر العطاء في كل شيء.

إن يدهم إن لم تكن العليا فلن تكن السفلى، وهكذا يصر -صلى الله عليه وسلم-، أن يأخذها بالثمن وسلوكه ذلك هو الترجمة الحقة لقوله تعالى: ( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (سورة الشعراء: الآية109).

إن الذين يحملون العقيدة والإيمان ويدعون إليهما ما ينبغي أن تمتد أيديهم إلى أحد ـ إلا الله ـ لأن هذا يتناقض مع ما يدعون إليه وقد تعود الناس أن يعوا لغة الحال لأنها أبلغ من لغة المقال، وما تأخر المسلمون وأصابهم ما أصابهم من الهوان إلا يوم أصبحت وسائل الدعوة والعاملين بها خاضعة للغة المادة، ينتظر الواحد منهم مرتبة، ويومها تحول العمل إلى عمل مادي فقد الروح والحيوية والوضاءة، وأصبح للأمر بالمعروف موظفون، وأصبح الخطباء موظفين، وأصبح الأئمة موظفين.

إن الصوت الذي ينبعث من حنجرة وراءها الخوف من الله والأمل في رضاه غير الصوت الذي ينبعث ليتلقى دراهم معدودة، فإذا توقفت توقف الصوت، وقديماً قالوا: ليست النائحة كالثكلى ولهذا قل التأثير وبعد الناس عن جادة الصواب. (3)

7 ـ جواز الاستعانة بالكافر المأمون:

ويجوز للدعاة أن يستعينوا بمن لا يؤمن بدعوتهم ما داموا يثقون بهم ويأتمنوهم على ما يستعينون به معهم، فقد رأينا أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبا بكر استأجرا مشركاً ليدلهم على طريق الهجرة ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه عند غار ثور، وهذه أمور خطيرة أطلعاه عليها، ولا شك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه وثقا به وأمناه، مما يدل على أن الكافر أو العاصي أو غير المنتسب إلى الدعاة قد يوجد عند هؤلاء ما يستدعي وثوق الدعاة بهم، كأن تربطهم رابطة القرابة أو المعرفة القديمة أو الجوار أو عمل معروف كان قد قدمه الداعية لهم. أو لأن هؤلاء عندهم نوع جيد من الأخلاق الأساسية مثل الأمانة وحب عمل الخير إلى غير ذلك من الأسباب، والمسألة تقديرية يترك تقديرها إلى فطنة الداعي ومعرفته بالشخص. (4)

8 ـ حسن القيادة والرفق في التعامل:

إن القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كل شيء وتستطيع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود، فقد كان -صلى الله عليه وسلم-رحيماً وشفوقاً بجنوده وأتباعه، فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه، ولم يبق إلا المستضعفين

والمفتونين ومن كانت له مهمات خاصة بالهجرة. (5)

- ثبات أهل الإيمان في المواقف الحرجة:

ويتضح ذلك في جواب النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأبي بكر -رضي الله عنه-، لمّا كان في الغار. وذلك لما قال أبو بكر: والله يا رسول الله لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا. فأجابه النبي -صلى الله عليه وسلم-، مطمئناً له: ((مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا)). (6)

فهذا مثال من أمثلة الصدق والثبات، والثقة بالله، والاتكال عليه عند الشدائد، واليقين بأن الله لن يتخلى عنه في تلك الساعات الحرجة. هذه حال أهل الإيمان، بخلاف أهل الكذب والنفاق؛ فهم سرعان ما يتهاونون عند المخاوف وينهارون عند الشدائد، ثم لا نجد لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً.

9 ـ استمرار الدعوة في أحلك الظروف:

في طريق الهجرة أسلم بريدة الأسلمي رضي الله عنه في ركب من قومه. (7)

إن المسلم الذي تغلغلت الدعوة في شغاف قلبه لا يفتر لحظة واحدة عن دعوة الناس إلى دين الله تعالى، مهما كانت الظروف قاسية والأحوال مضطربة، والأمن مفقود، بل ينتهز كل فرصة مناسبة لتبليغ دعوة الله تعالى، هذا نبي الله تعالى يوسف عليه السلام حينما زج به في السجن ظلماً، واجتمع بالسجناء في السجن، فلم يندب حظه، ولم تشغله هذه الحياة المظلمة عن دعوة التوحيد وتبليغها للناس ومحاربة الشرك وعبادة غير الله والخضوع لأي مخلوق قال تعالى: ( قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (سورة يوسف: الآيات37-40).

وسورة يوسف عليه السلام مكية، وقد أمر الله تعالى رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- أن يقتدي بالأنبياء والمرسلين في دعوته إلى الله وذلك نجده -صلى الله عليه وسلم- في هجرته من مكة إلى المدينة وقد كان مطارداً من المشركين قد أهدروا دمه وأغروا المجرمين منهم بالأموال الوفيرة ليأتوا برأسه حياً أو ميتاً، ومع هذا فلم ينس مهمته ورسالته -صلى الله عليه وسلم-.

10 ـ التضحية في الهجرة:

كانت هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه عن البلد الأمين تضحية عظيمة عبّر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ حَمْرَاءَ -رضي الله عنه-، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَاقِفًا عَلَى الحَزْوَرَةِ ( مكان في مكة ) فَقَالَ: ((وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)). (8)

وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، المَدِينَةَ، وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا، قُلْتُ: يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلاَلُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الحُمَّى، يَقُولُ:

كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ. . . وَالمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ

وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أَقْلَعَتْ عَنْهُ يَقُولُ:

أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً. . . بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ

وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ. . . وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ)). (9)

11ـ أهمية العقيدة والدين في إزالة العداوة والضغائن:

قال تعالى ممتنا على نبيه -صلى الله عليه وسلم-، {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62، 63]

إن العقيدة الصحيحة السليمة والدين الإسلامي العظيم لهم أهمية كبرى في إزالة العداوات والضغائن، وفي التأليف بين القلوب والأرواح، وهو دور لا يمكن لغير العقيدة الصحيحة أن تقدم به وها قد رأينا كيف جمعت العقيدة الإسلامية بين الأوس والخزرج، وأزالت آثار معارك استمرت عقوداً من الزمن، وأغلقت ملف العقيدة في نفوس الأنصار، فاستقبلوا المهاجرين بصدور مفتوحة، وتآخوا معهم في مثالية نادرة، لا تزال مثار الدهشة ومضرب المثل، ولا توجد في الدنيا فكرة أو شعار آخر فعل مثلما فعلت عقيدة الإسلام الصافية في النفوس.

والحمد لله رب العالمين

-----

(1) البخاري (3) ومسلم (160)

(2) رواه البخاري (2138)

(3) معين السيرة: ص148، 149.

(4) الهجرة النبوية المباركة، ص206.

(5) الهجرة النبوية المباركة، ص205.

(6) رواه البخاري (3653) ومسلم (2381).

(7) الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 418).

(8) رواه الترمذي (3925) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1192).

(9) رواه البخاري (5654).

عدد المشاهدات 7834